انفرط عقد «العرب» وتهاوت الشعارات القومية التي كانت تثير الحماسة وتدفع الجماهير إلى الشارع ملوّحة بأعلام الوحدة والحرية والاشتراكية. وسادت «الإقليمية» و «الكيانية» وما تفرع منهما وصولاً إلى الطائفية بل المذهبية. ونتج من هذا الفقر الإيديولوجي ارتفاع الدعوات الانفصالية التي كادت تبلغ حدّ الحرب بين المسلمين أنفسهم، الذين تجدد انقسامهم سنة وشيعة، وبالاستطراد علويين ودروزاً واسماعيليين، بحيث سقط الرابط القومي المفترض بينهم، ما وسّع المجال أمام «الأجنبي» الذي جاءته الجوائز بأكثر مما يرغب ومن حيث لا يحتسب، فغدا «المرجعية» في شؤون هذه البلاد التي طمح أهلها، ذات يوم، إلى دور تنويري بالثورة لإعادة صناعة التاريخ في هذه المنطقة استثنائية الغنى بموارد الثروة وبالطاقة البشرية المؤهلة لدخول العصر.
وها هي الدول العربية التي كانت تتبدى منيعة تتهاوى، وتعيش الأغنى منها أزمات اقتصادية جدية لهول ما أنفقته على مختلف أنواع السلاح الأكثر تطوراً، والذي لن يُتاح لها أن تستخدمه إلا ضد من كانوا «أشقاءها» وبناة معالم تقدمها من أهلها الفقراء أبناء العروبة، التي تتبدى الآن وصمة عار أو سمة تخلف يسعى الحكام إلى التبرؤ منها و«حماية» رعاياهم من لعنتها المدمرة.
اختفت شعارات العروبة والاشتراكية والحرية، وسادت اللغة الإنكليزية في بيوت القادة، ملوكاً وأمراء وسلاطين وشيوخاً فضلاً عن الرؤساء والوزراء. وتحوّلت الجيوش العربية إلى حقل تجارب للخبراء الأجانب من جنرالات الحروب ضد الشعوب في أنحاء مختلفة من العالم، الذين أتوا يدربون الجيوش العربية الناشئة والتي يغلب على عديدها طابع الهجانة ـ إذ إنهم في غالبيتهم من دول عربية أو إسلامية فقيرة ـ فيما يظل قرار الحرب والسلم في أيدي القيادة المركزية الأميركية وأساطيلها البحرية والجوية التي تمخر المحيطات والبحور من حول «الوطن العربي الكبير»، وقد «تعايش» فيها الأميركي والبريطاني مع الروسي، بينما القادة العسكريون العرب يقومون بواجب ترجمة الأوامر للقطعات في الطيران والبحرية وسلاح البر على حد سواء.
في المقابل، لم يعد أركان هذه الأنظمة، ملوكاً كانوا أم شيوخاً، معنيين بتبرير التحول والتنصل من الهوية العربية الجامعة، التي لم يتبق منها إلا الهيكل المتهالك لجامعة الدول العربية التي يتولى منصب الأمين العام فيها، حالياً، أحد أبرع المدافعين عن الصلح مع العدو الإسرائيلي وبشروطه.
بل إن سلوك بعض الأنظمة العربية يكاد يكون أقرب إلى توجيه دعوة رسمية إلى «الخارج» للعودة إلى بلادنا «للمساعدة» في حفظ الدولة وتعزيز قدراتها على مواجهة المصاعب الداخلية أو.. مع الأشقاء العرب.
المفارقة محزنة بين الأمس القريب واليوم: كانت الوحدة الوطنية هي الضمانة لقيام الدولة واستمرارها، عبر مواجهة مباشرة ومفتوحة مع قوى الاحتلال الأجنبي، أو محاولاته للهيمنة والعودة من باب الاقتصاد وأسباب الحداثة، لفرض إرادته على بعض الدول التي كان يحتلها ويصادر قرارها الوطني. أما اليوم فالأنظمة التي عجزت عن حماية دولها تستنجد بمن يسترهن إرادتها ويسقط أرضاً شعارات الاستقلال والتحرير في «الشارع»، الذي كان المعبّر الفعلي عن الإرادة الشعبية، والذي ألغته موجبات الحداثة وضرورات الانتظام العام خلف النظام، وإلا فالسجون تتسع لأبناء الماضي الذين يعيشون في أحلامهم ومعها.
اللافت أن أغنى الدول العربية في مداخليها، وأخطرها النفط والغاز، هي التي تذهب الآن إلى الاستعمار القديم أو المتجدد، طالبة إليه نجدتها في حماية ثرواتها الطبيعية واستثمارها عنده أو عندها وإنما بإشرافه وتحت قيادته، من أجل ضمان المكانة والنفوذ في محيطها وتأمين حمايتها من هذا المحيط تحديداً.
بل إن بعض هذه الدول هائلة الثروة لم تكتف بحجب مساعداتها عن «الأشقاء والفقراء من العرب»، بل انقلبت عليهم مفترضة فيهم معاداتها، واندفعت تشن حروباً تبررها بالقول إنها «استباقية» على بعض هؤلاء، ممن كانوا في موقع الحارس لطموحها إلى التحرر من الهيمنة الأجنبية والاندفاع إلى البناء بقدراتها الذاتية مع الحفاظ على قرارها الوطني المستقل.
فجأة، من دون سابق إنذار، ارتدت دول الخليج العربي، بالقيادة السعودية، الثياب العسكرية واندفعت إلى الهجوم على اليمن بذريعة «تمرد» بعض القوى السياسية الطامحة إلى التغيير على «إرادة الشقيقة الكبرى»!
وإذا كانت دولة من غاز، مثل قطر، قد احترفت المغامرة والتنطح للعب أدوار قيادية تفوق طاقة شعبها وقدراته وقوة إيمانه بعروبته، عبر التبرع بفتح أبوابها للعدو الإسرائيلي بذريعة الاستنجاد به في مواجهة أطماع جارتها الكبرى، السعودية، ورغبتها في الاستيلاء على منطقة «العيديد»، علماً أن الأمر انتهى بإقامة قاعدة عسكرية أميركية كبرى في العيديد، ومعها فتحت سفارة بعنوان «مكتب رعاية المصالح الإسرائيلية» في الدوحة، على الأرجح لحماية استثمارات الغاز الهائلة في الجزيرة الصغيرة.
في السياق ذاته، ولأسباب غير مفهومة، اندفعت دولة مذهّبة مثل الإمارات العربية المتحدة لتلعب أدواراً سياسية وأخرى عسكرية، في المنطقة عموماً، وفي الحرب السعودية على اليمن خصوصاً، من دون أي مبرر وأي مصلحة للإمارات في هذه البلاد، التي جاءت منها الأسرة الحاكمة في البلاد والتي كان قائدها ـ المؤسس الراحل الشيخ زايد بن سلطان ـ يباهي بنسبه التي تعود أصوله إلى اليمن السعيد.
هكذا، ولأسباب غير مفهومة ولا يمكن تبريرها، اندفعت كل من دولتي قطر والإمارات، هائلتي الثروة، إلى المشاركة في حرب ظالمة وثقيلة الأكلاف ضد بلاد عريقة كانت من أوائل «الدول» بل الإمبراطوريات في التاريخ الإنساني عموماً والعربي خصوصاً. وهي حرب استطالت حوالي السنتين حتى الآن، ويصعب التكهن بنهاية لها.
ثمّ إن السعودية ومعها الإمارات وقطر قد تكبدت وما زالت تتكبد وسوف تتكبد أكثر وحتى إشعار آخر، ما يكفي لبناء أكثر من دولة عصرية في اليمن، بالجامعات والمصانع والمختبرات، فضلاً عن الزراعة وسائر أسباب الإنتاج، وتحت عنوان النجدة الأخوية، بدلاً من الحرب بالطائرات والصواريخ والمدفعية الثقيلة والمدمرات في البحر، لتهديم أسباب العمران وفيها ما هو من كنوز التراث الإنساني.
كذلك فإن هذه الدول، هائلة الثروات، قد اندفعت إلى الحرب في سوريا وعليها، بحجة النقص في ديموقراطية النظام. فأخذت تموّل وتوفّر السلاح لعصابات يرفع معظمها الشعار الديني على غرار «القاعدة» و «داعش»، وهو يرتكب المذابح ويشارك في إحراق المدن وتدمير القرى والتمكين للقائلين ببدعة الخلافة الإسلامية، للسيطرة على منابع النفط والاتجار بإنتاجها والاندفاع إلى تهديم معالم الحضارة في هذه البلاد ذات التاريخ العريق وفيها عواصم التمدن الإنساني.
إن عرباً يقاتلون ويقتلون عرباً، وعرباً يدمرون مدن التاريخ ويغتالون مستقبل أهلهم في أرضهم، وعرباً يعملون بقصد وبوعي مرصود لعودة الهيمنة الأجنبية على قرارهم السياسي ومصادر الثروة في بلادهم.
إن العرب في ضياعهم الراهن يقدّمون خدمات جلّى، تفوق الخيال، لأعدائهم في ماضيهم وفي حاضرهم وفي مستقبلهم، أخطرهم الإسرائيلي، ويتقدمون بطلبات متوالية إلى مستعمِرهم القديم بل ويتجاوزونه إلى المهيمن الجديد، الولايات المتحدة، طالبين استعمارهم مجدداً بذريعة التمكين لقتال إخوانهم في الماضي والحاضر وشركائهم في المصير، العرب.
والعدو الإسرائيلي يمد نفوذه، ويتغلغل في الأرض العربية بهدوء، ولكن بقوة، والعرب العاربة يقاتلون أنفسهم ثمّ يذهبون إلى الاحتفال بأعياد النصر.
لا أمل حتى الساعة بفجر جديد.
مع ذلك فإن التاريخ لم ينته بعد، والأمة لمّا تمت.. وهي ولّادة.
عن السفير