ما الذي يُمكن توقّعه من قول لزعيم حركة ثورية عريقة دخلت في نزاع مسلّح مع حكومة بلدها لعشرات السنين، وأرغمت هذه الحكومة أخيراً على توقيع اتفاق للسلام والمصالحة معها؟
لم يستعرض رودريغو لوندونيو عضلاته ولم يتبجّح، بل تحلّى بكل التواضع ليعتذر إلى شعبه عما لحق به من أذىً جرّاء الثورة الطويلة التي قادتها الحركة ضد النظام في بلاده.
ولوندونيو الملقّب أيضاً بـ "تيموشنكو"، هو زعيم حركة "القوات المسلحة الثورية الكولومبية" (فارك FARC) التي انبثقت في العام 1964 عن تمرّد للفلاحين في هذه الدولة الامريكية اللاتينية، وصارت الجناح العسكري للحزب الشيوعي الكولومبي قبل أن يبعدها عنه لاحقاً لتورّطها في تجارة المخدّرات واختطاف المدنيين.
الإثنين الماضي انتهت حرب النصف قرن باتفاق بين الحركة والحكومة أُعلن في احتفال عام حضره رؤساء دول وحكومات وشخصيات دولية بينهم الرئيس الكوبي راوول كاسترو الذي ضيّفت بلاده محادثات السلام بين الطرفين، والأمين العام للأمم المتحدة بان - كي مون ونظيره لمنظمة الدول الأمريكية لويس الماغرو ووزيرا خارجية الولايات المتحدة جون كيري والفاتيكان الكاردينال بييترو بارولين.
في خطابه بالمناسبة، إثر توقيعه الاتفاق، طلب لوندونيو الصفح من ضحايا النزاع المديد، في مبادرة وُصِفت بأنها الأولى من نوعها، ووعد بـمرحلة جديدة من المصالحة والسلام، وقال: "باسم القوات المسلحة الثورية الكولومبية، أعتذر بصدق لجميع ضحايا النزاع .. أطلب الصفح والغفران لكل الآلام التي قد نكون سبّبناها طيلة هذه الحرب"، وأضاف: "نحن نولد من جديد لإطلاق مرحلة جديدة من المصالحة وبناء السلام".
بالطبع ليس في وسع كلمات القائد الثوري الكولومبي هذه أن تعيد الحياة إلى مَنْ ماتوا في النزاع من دون ذنب ولا أن تعوّض سائر الضحايا عن آلامهم وخسائرهم، لكنّها بالتأكيد يُمكن أن توصد باب الموت والدمار وتفتح باباً عريضة إلى سلام وطيد وحياة مزدهرة.
لا أظن أن أحداً منّا يمكن أن يجمح به الخيال ليتوقع أنّ أيّاً ممَّنْ يتسبّبون منذ ثلاث عشرة سنة في موتنا ودمارنا من أُمراء الحرب والفساد في العراق سيحذو يوماً حذو القائد الثوري الكولومبي فيعتذر إلينا عن خطاياه ويطلب الصفح منّا عمّا تسبّب فيه هو وحزبه أو كتلته أو ائتلافه من موت ومحن وكوارث ونهب للمال العام والخاص فاقت ما حصل للكولومبيين في الحرب الطويلة بين (فارك) وحكومات كولومبيا.
ثمّة فرق كبير بين العقليات والأخلاق هناك وهنا .. هناك، في أمريكا اللاتينية وسواها من مناطق العالم المتحضّرة، تسود العقليّات المدنية وأخلاق الجنتلمان، أمّا هنا فتتكرّس عقليّات التخلّف وتتفشّى أخلاق البادية بجلافتها المفرطة.
عن المدى العراقية