رحل شمعون بيرس امس عن عُمْر 93 عاما. وهو المولود في بولندا قبل تقسيمها في أعقاب الحرب العالمية الثانية او روسيا البيضاء بعدها في الثاني من اغسطس العام 1923. هاجرت عائلته إلى فلسطين زمن الانتداب البريطاني 1934 وفي زمن تدفق الموجة الصهيونية الثانية والاكبر آنذاك، وأقامت في تل ابيب. ابن تاجر الخشب البولندي الصهيوني، يعتبر من الرعيل المؤسس لدولة التطهير العرقي الاسرائيلية، ويمكن الافتراض انه من آخر القادة، الذين اشادوها على انقاض نكبة الشعب العربي الفلسطيني 1948. الرئيس الاسرائيلي السابق كان عضوا قياديا في عصابة "الهاجاناة" الارهابية، ومسؤولا عن شراء وتخزين الاسلحة. وعمل في المواقع التي تسلمها عشية إقامة الدولة العبرية في ايار 1948 مع بن غوريون وكل قادة المباي (الحزب المؤسس لاسرائيل، حزب العمل حاليا) وتعاون مع قادة حيروت (الليكود الان). انخرط بعد إقامة إسرائيل الاستعمارية في السلك الديبلوماسي. وتنبه باكرا لتسلح إسرائيل النووي، فقام بالتفاوض مع الفرنسيين على إقامة مفاعل ديمونا النووي. وهو ما تم فعلا في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي 1958 تحديدا، وبدأ بالعمل ما بين 1962و1964. ولهذا يعتبر الاب الروحي للمشروع النووي الاسرائيلي. بيرس رجل إنتهازي من طراز رفيع. لا يقيم وزنا للمبادىء والقيم سوى نواظم الاستعمار الاسرائيلي للارض الفلسطينية. لذا نذر نفسه إسوة بالصهاينة المؤسسين لتكريس المشروع الصهيوني الاجلائي والاحلالي على الارض الفلسطينية وعلى حساب اصحاب الارض الاصليين من الفلسطينيين العرب. وبذل من خلال المواقع الارهابية والحزبية والسياسية والديبلوماسية، التي تسلمها كل مخزونه الاستعماري الشيطاني لتسيد الصهاينة الاسرائيليين وخاصة الاشكناز على الارض الفلسطينية، والتأصيل للدولة الكولونيالية في الواقع. كان مسكونا بالعيش في الضوء،. لهذا رفض العيش في الظل. رغم انه لم يكن محظوظا، وكان متعثرا في كل الحملات الانتخابية، التي ترشح فيها لرئاسة الحكومة. حتى قيل "إن بيرس لو ترشح لوحده لجاء في الترتيب الثاني". غير ان المحاكمة الموضوعية تحتم الاقرار، ان شمعون بيرس، كان ثعلبا مراوغا من طراز رفيع. يعلن ويصرح ويكتب شيئا ويبطن شيئا آخرا. فهو من رافعي لواء "السلام" مع الفلسطينيين، ونَّظرْ لذلك في كتابه "الشرق الاوسط الجديد". وهو من حفز رابين للقبول بالتفاوض مع القيادة الفلسطيتية، وهو من وقع على اتفاقيات اوسلو في 13 ايلول 1993 في البيت الابيض. وقال مرارا كثيرة عن "رغبته" بحل الدولتين على حدود الرابع من حزيران 1967، لكنه عمليا كان مع تعميق خيار الاستيطان الاستعماري. وهذا ما نقله الراحل الكبير محمد حسنين هيكل عن الرئيس الفرنسي ميتران بعد التوقيع على اتفاقية اوسلو، الذي سأل صديقه بيرس، وكان يشغل آنذاك موقع وزير خارجية إسرائيل، عما ستقدمه إسرائيل للفلسطينيين، فأجاب:" لم نفكر بعد. ونحتاج وقتا طويلا نأخذ فيه الفلسطينيين إلى مائدة المفاوضات، ثم نعود بهم من قرب المائدة، ثم نعود بهم إلى المائدة. وسنطرح عليهم صيغا واسعة ومفتوحة لكل الاجتهادات. ثم نأخذهم معنا الى تمارين الصياغة، التي قد تكون مفيدة في تعليمهم دون ان تكون بالضرورة مؤدية لاتفاق معهم. ثم سنعرض عليهم وساطات ووسطاء يذهبون بأفكار ومقترحات ويجيئون باخرى. وسنتركهم يذهبون الى واشنطن ونيويورك ويعودون منها. ونتيجة لهذا الجهد كله سيتأقلم الفلسطينيون تدريجيا على تخفيض سقف توقعاتهم." ليس هذا فحسب، بل كان قاتلا من طراز رفيع، فهو من قصف الاطفال والنساء والشيوخ اللبنانين، الذين لجؤوا إلى مقر الكتبية الفيجية الاممية في قرية قانا اللبنانية في 18 إبريل من عام 1996 هربا من عمليات القصف الاسرائيلية الوحشية المصاحبة عملية عناقيد الغضب، وراح ضحيتها ما يزيد على ال200 شهيدا بالاضافة لمئات الجرحى. وغيرها من الجرائم وعمليات القتل، التي اشرف عليها او نفذت تحت قيادته كوزير للدفاع او رئيسا للحكومة الاسرائيلية في الاراضي الفلسطينية المحتلة. مات بيرس وحقق ما كان يريده، عدم الوصول لخيار حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران 67. لانه لم يكن يوما نصيرا للسلام. بل كان عدوا له، وكان قاتلا مجرما ومعاد لمصالح وحقوق الشعب العربي الفلسطيني. رغم ذلك يؤكد المرء، ان التمسك الفلسطيني بخيار السلام، وحل الدولتين على حدود 67، هو مصلحة فلسطينية. رغم كل الويلات وعمليات القهر الاستعمارية الاقتلاعية الاجلائية والاحلالية. لعل العالم والغرب خصوصا يقتنعوا بان ركيزتهم الاستعمارية باتت تهدد مصالحهم الحيوية في المنطقة، ويعيدوا النظر بعد ان يعتذروا للشعب العربي الفلسطيني عما ابتلوه من نكبة وخراب طيلة القرن الماضي قبل وبعد إقامة إسرائيل.