وأخيراً، وافت المنية شمعون بيريز عن عمر يناهز 93 عاماً. وعلى الرغم من أن الرجل كان موضع خلاف في أغلب سني حياته داخل الدولة العبرية، إلا أن وفاته وحّدت الإسرائيليين على اختلاف مشاربهم. وتقريباً، ينظر أغلب الإسرائيليين إلى بيريز بوصفه آخر جيل المؤسسين والرجل الذي كان دائم الفعل والمبادرة، والأهم، أنه صاحب الرؤى التفاؤلية. وبديهي أن هذه ليست نظرة العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً ممن خبروا على أجسادهم أفعال ومبادرات بيريز في مراحل حياته المختلفة، من ترتيب العدوان الثلاثي على مصر إلى إنشاء المفاعل النووي إلى مشروع الاستيطان في الضفة الغربية، وصولاً إلى اتفاقيات «أوسلو» وعدوان «عناقيد الغضب» ومجزرة قانا في العام 1996.
ولد بيريز في آب العام 1923 في بلدة فيشنبا في بولندا، وهاجر مع عائلته إلى فلسطين وهو في الحادية عشرة من عمره. وتتحدث الأسطورة الصهيونية عنه أنه كان ناشطاً سياسياً منذ الرضاعة! وتولى منصباً رفيعاً في حركة «الشباب العامل» الصهيونية وهو في سن 18. وفي حزب «مباي» اعتبر بين صبيان دافيد بن غوريون، الذي عينه وهو لم يبلغ الثلاثين من عمره نائباً للمدير العام لوزارة الدفاع عام 1952. وكانت أول مشاريعه في الوزارة إنشاء ورشة لصيانة الطائرات الحربية ومحركاتها، شكلت بداية شركة «الصناعات الجوية الإسرائيلية»، التي تقدر عائداتها السنوية حالياً بمليارات الدولارات.
في العام 1956، وأثناء المباحثات بشأن العدوان الثلاثي، طلب بيريز من فرنسا أن تبني لإسرائيل مفاعلاً نووياً لمنع إبادتها. وهكذا امتلأت ديمونا بالعلماء الفرنسيين واليهود ممن جاؤوا لإنشاء «مصنع النسيج» تحت غطاء كثيف من السرية. وخلال حوالي عقد من الزمان، غدت إسرائيل دولة نووية تمتلك الكثير من الرؤوس الحربية النووية.
ورافق بيريز زعيمه بن غوريون الذي اختلف مع حزب «مباي» في منتصف الستينيات، وانتقل إلى حزبه الجديد الذي سمي «رافي». وكان معه في هذا الانتقال أيضاً موشي ديان. وفقط بعد حرب 67 وإنشاء «المعراخ» كتجمع عمالي في مواجهة تكتل اليمين «الليكود»، جرى توحيد أحزاب عمالية في حزب «العمل». وغدا بيريز من زعماء هذا الحزب وتولى بعدها مناصب وزارية مختلفة.
وكان معلوماً أن بيريز في ماضيه كان يعد بين صقور حزب «العمل». وعندما تولى وزارة الدفاع في حكومة اسحق رابين الأولى، كان بين أبرز مشجعي حركة الاستيطان التي قادتها حركة «غوش إيمونيم» الدينية. وصادق في العام 1975 على إنشاء مستوطنة «ألون موريه» داخل موقع للجيش الإسرائيلي وبعدها مستوطنة عوفرا. وفي عهد بيريز كوزير للدفاع، نفذ الجيش الإسرائيلي عملية عنتيبه لتحرير رهائن كانوا على متن طائرة «إير فرانس»، اقتادها فلسطينيون من العمليات الخارجية للجبهة الشعبية إلى أوغندا.
وفي العام 1977، قاد بيريز «المعراخ» في الانتخابات التي أدت إلى فوز اليمين بقيادة مناحيم بيغين برئاسة الحكومة لأول مرة في تاريخ الدولة العبرية. وفي العام 1984، حينما كانت إسرائيل تدار بحكومة برأسين، بيريز وزعيم الليكود اسحق شامير، تولى بيريز وزارة المالية ونفذ سياسة مالية يقال إنها أنقذت الاقتصاد الإسرائيلي من الانهيار.
وفي الشأن اللبناني كان لبيريز أدوار ظاهرة. ففي عهده كرئيس لحكومة الوحدة في العام 1985، قرر إخراج الجيش الإسرائيلي من أغلب الأراضي اللبنانية المحتلة، عدا ما عرف بـ «الحزام الأمني». وكان بيريز بين مبدعي فكرة «الجدار الطيب» التي مهدت للعلاقات مع القوات اللبنانية.
اشتهر بيريز في الحلبة الداخلية بالتآمر، وهذا ما جلب له الكثير من الانتقادات. وكانت أبرز مؤامراته ما عرف بـ «المناورة النتنة»، حيث حاول إسقاط حكومة الوحدة مع اسحق شامير بذريعة إنشاء «حكومة السلام» مع الحريديم. وقد عاد بيريز إلى الواجهة بعد مصالحات أجراها مع اسحق رابين، وإبرام اتفاقيات أوسلو مع منظمة التحرير في العام 1993. وبعد ثلاثة أشهر من التوقيع على اتفاقيات «أوسلو»، رتب بيريز مع الملك الأردني، حسين، مسودة معاهدة الصلح مع الأردن التي عُرفت باتفاقية وادي عربا. ونظراً لدوره هذا، فاز إلى جانب كل من اسحق رابين والرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بجائزة نوبل للسلام.
وبعد فوزه بجائزة السلام واغتيال رئيس الحكومة الإسرائيلية اسحق رابين على يد متطرف يميني في تل أبيب، ترأس بيريز لفترة وجيزة الحكومة الإسرائيلية. وكانت أولى خطواته شن حرب على لبنان في تموز العام 1996، عُرفت بحرب عناقيد الغضب، وكانت مجزرة قانا التي استهدفت مدنيين وأطفالا في حماية القوات الدولية أبرز مشاهدها.
وخسر بيريز بعدها الانتخابات لمصلحة بنيامين نتنياهو، ما قاد إلى اعترافه علناً بأنه «الخاسر»، لأنه فعلياً لم يفلح أبداً في قيادة حزبه إلى تحقيق أي انتصار انتخابي.
ووفرت المكانة الدولية لبيريز، تعويضاً جدياً عن خساراته الانتخابية المتكررة. وعلى الرغم من أن مكانته نبعت أساساً من كراهية العالم لخصمه المحلي، بنيامين نتنياهو، إلا أن الكثيرين من قادة العالم رأوا فيه، من دون وجه حق، رجل سلام. وقادت مكانته الدولية الإسرائيليين إلى تقبله رئيساً في العام 2007، خصوصاً بعدما كان قد انقلب على حزب «العمل» وانتقل للعمل مع أرييل شارون في حزب «كديما».
أكثر بيريز في أواخر حياته من الإقرار بأنه بدأ حياته متطرفاً كبن غوريون، ولكنه انتهى «معتدلاً» مثل موشي شاريت. وقال مراراً إنه ليس من تغير وإنما العالم من حوله هو ما تغير. ويرى معلقون أن بيريز كان يجمع في داخله كثيراً من المتناقضات.
عموماً أعلنت إسرائيل الحداد، وسيدفن بيريز في مقبرة تل يسمى «عظماء الأمة» في القدس، بعد تنظيم جنازة دولية له يوم الجمعة يحضرها العديد من رؤساء العالم وقادته. وقال نائب الرئيس الأميركي جو بايدن إن بيريز كان «روح إسرائيل» وموته يجعل العالم «أشد ظلاماً».
وأرسل الرئيس الفلسطيني محمود عباس رسالة تعزية لعائلة بيريز، اعتبره شريكاً للسلام ورجلاً شجاعاً. أما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فقال إنه يود «الثناء على دور بيريز الشخصي في تحقيق السلام في الشرق الأوسط».
وقال نتنياهو في مستهل جلسة الحكومة الإسرائيلية، إن «هذا أول يوم لدولة إسرائيل من دون شمعون بيريز. وبيريز كان بين عظماء زعمائنا ومن خلفه سلسلة طويلة من الإنجازات». وشدد نتنياهو على أن بيريز كان رجل الأعمال، وأنه لم يكف يوماً عن العمل من أجل السلام.