قُتل «ناهض حتر»، وهو الآن بين يدي ربّه. ما يهمني ويقلقني الآن هو تداعيات مقتله.. لا يعني ذلك أني لم أتأثر لمقتله؛ فهو إنسان ومواطن، وأنا ضد قتل أي إنسان تحت أي عنوان.. وما يحزن أكثر أنه في نفس يوم مصرعه، استشهد أسير فلسطيني في السجون الصهيونية، وقضى نحو مائة سوري نحبهم بحلب، ربما على يد النظام الذي كان «حتر» يؤيده، وهؤلاء تحولوا في ذلك اليوم المشؤوم إلى مجرد أرقام منسية.
مقتل «حتر» جريمة اغتيال سياسي، وهي مثل كل جرائم الاغتيال مدانة ومرفوضة بالمطلق؛ لأنها جريمة جبانة، ولا تنفَّذ إلا غدراً.. لكن ما صدمني حقاً، هو ردود أفعال الناس على مقتله.. نسبة كبيرة (ومخيفة) من الجمهور الأردني لم يروا جريمة.. ما رأوه هو مجرد «رحيل كاتب مكروه»، لا يهم كيف رحل، ولا من قام بترحيله، ولا أثر ذلك على البلد ومستقبلها.. علماً أن الجريمة نُفذت في وضح النهار، وأمام قصر العدل، والمجرم اعترف بفعلته.. فهل صار قتل مواطن لمواطن آخر عملاً عادياً، لا يُعتبر جريمة؟! حتى بالمحددات الإسلامية، هل يجوز لأي شخص أن يقتل من يعتبره كافراً؟!
النقطة الأخرى التي تغاضى عنها الجمهور هي أن مواطناً أخذ على عاتقه مهمة إنفاذ القانون، بيده، وهنا ليس مهماً أنه وضع لنفسه قانوناً خاصاً، ونصّب نفسه قاضياً وجلاداً، ولم يعترف بالمحكمة التي هو أمامها تماماً، ولا بالدولة التي هو مواطن فيها!! يعني مقابل أن البعض «أشفى غليله» تغاضى عن خطورة أخذ القانون باليد، وتغاضى عن تجاوز دور مؤسسات الدولة ومحاكمها ودوس قانونها.
البعض فرح لمقتل «حتر»؛ لأنه اعتقد أنه تخلص من قلم مزعج، وشخص مستفز، شخص يطرح أفكاراً غريبة وغير مقبولة.. وبالتالي تخلصنا من خطورة تأثيره على الآخرين، وعلى الأجيال القادمة، وهذا سيكون درساً لكل أمثاله من الكتّاب، وفي النهاية سننظف فضاء المجتمع من الأفكار الدخيلة والشاذة وووو.. وطبعاً لا يوجد طرح أكثر سذاجة من هذا.. لأن الفضاء الرقمي الإلكتروني صار يوفر كل المعلومات والأخبار والأفكار الموجودة في هذا العالم، والتي لم توجد بعد، وبالتالي من العبث والغباء الاعتقاد بإمكانية منع أو قمع الآراء (الشاذة)، أو إسكاتها، إضافة إلى أن مقتل «حتر» سيحفّز على إنتاج عشرات وربما مئات النسخ منه.
البعض فرحوا لمقتله، واطمأن بالهم، بتخلصهم من ملحد وكافر.. وسمّوا القاتل «غيور على دينه»، وصفقوا له.. لكنهم لم يدركوا أن تساهل المجتمع مع القاتل سيشجع عشرات وربما مئات من «الغيورين على دينهم» على قتل كل من سيعتبرونه مخالفاً لدينهم.. وطبعاً بأيديهم.. ما يعني أن بوابة الفوضى ستُفتح على مصراعيها.. وطبعاً قصار النظر وحدهم من يظن أن القتل سيوجه ضد «الكفار» والملحدين» فقط.. ولا يعلمون أن بيئة الفوضى المقترنة بالتعصب والتشدد والكراهية ستفتح بوابة جهنم.. بحيث سيقتل كل متعصب أي شخص يختلف معه حتى لو كان على نوع العصير المفضل.. ولا أبالغ في هذا أبداً، وعلى من يشكك في ذلك، أن يتابع أخبار الاقتتال في سورية والعراق بين الجماعات الإسلامية نفسها.. وحروب التصفية والاغتيالات الداخلية.
وربما أخطر ما في الموضوع هو أن الجريمة كشفت عن مقدار الاحتقان والكبت والغضب في المجتمع الأردني (وأكيد في باقي المجتمعات العربية)، وبينت إلى أي مدى يمكن للتحريض الإعلامي أن يشحن الناس بهذا القدر من الكراهية.. طبعاً البعض سيقول إنه غضب من أجل الله، ولأن فلاناً استهزأ بالدين ورموزه.. والحقيقة غير ذلك تماماً.. في مجتمعاتنا حالة احتقان وغضب وقهر غير عادية، لعشرات الأسباب: بسبب عربدة إسرائيل، وبسبب الاستبداد والقمع السلطوي، وكبت الحريات، وبسبب الفقر والبطالة والغلاء وانعدام الفرص، وانغلاق آفاق المستقبل، وبسبب الفساد والتفاوت الطبقي والتهميش والإقصاء، وبسبب الهزائم المتلاحقة، وبسبب التخلف والتلوث وضعف الخدمات... وعادة تلجأ الأنظمة الفاسدة لتنفيس هذا الغضب، والتمويه على الأسباب الحقيقة للاحتقان بافتعال أحداث جانبية وتوجيه حالة الغضب الشعبي تجاهها، وصرف الأنظار عن المسؤول الحقيقي الذي أوصلهم إلى هذه الحالة.
وعندما يترافق كل ما سبق مع سياسات حكومية فاسدة، وسياسات إعلامية (وحزبية) موجهة لتكريس هذه الحالة.. ومع الحروب والفوضى والدمار في عدة دول، وتفشي الروح الطائفية والتعصب المذهبي.. سيكون المسرح جاهزاً، وبانتظار إشارة البدء من المخرج.. (المخرج من خارج الحدود).
في ظل هذه الأجواء المشحونة من المتوقع نجاح حملات التحريض في بث الكراهية والأحقاد في نفوس الناس... سيقول البعض إن «حتر» كافر لا يستحق الرحمة!! ولكن ماذا بشأن الفتى «شادي أبو جابر» الذي توفي في حادث سير، ولم يكن ملحداً، ولا مع النظام السوري؟ ومع ذلك استنكر البعض عليه عبارة «رحمه الله»!! لمجرد أنه مسيحي!
حملات التحريض والكراهية التي تشنها بعض جماعات الإسلام السياسي، إنما هي عملية استغلال للأحداث لتعبئة الشارع وشحنه بالغضب، ومن ثم الاستقواء به على الدولة، وعلى المجتمع نفسه، لتمرير أجندتها وبرامجها وأيديولوجيتها، وحتى مخططاتها الخارجية.. لأن الشارع المعبأ والمشحون والمكبوت يسهل قيادته وتوجيهه، وهو سلاح خطير تخشى أي دولة مواجهته.
في أي مجتمع، كلما زادت الكراهية كلما تراجعت الإنسانية.. إلى أن تلغيها كلياً.. الكراهية أثقل ما يمكن للإنسان أن يحمله.. الكراهية هي الوقود الذي تتغذى عليه الفتن الطائفية والحروب الأهلية.. انظروا ماذا فعلت بدول الجوار.. واتعظوا.