وقف شمعون بيريس من على منصة الكنيست واستصعب إخفاء مشاعره.
فالرجل الذي اجتاز تقريبا كل شيء في حياته العامة في اسرائيل، وتكبد المرة تلو الاخرى الهزائم والضربات أصبح الان الرئيس التاسع لدولة اسرائيل، ويفترض بهذا أن يعيد الكرامة الضائعة للمؤسسة التي فسدت وفاحت رائحتها بفضائح سلفه موشيه قصاب.
«لم أحلم بان أكون رئيسا»، قال بيريس في خطاب القسم، أمام قاعة مليئة، وهي الكلمات التي لخصت جيدا المسار الطويل الذي مر فيه في حياته واجتازته شخصيته. «حلمي كفتى كان أن أكون راعي غنم أو شاعر نجوم. وعندما انتخبت، فالشرف هو لي».
وقد كان هذا شرفا حقا. لبيريس نفسه، للمؤسسة التي وقف على رأسها ولنا أيضا، نحن مواطني اسرائيل.
فالرئيس التاسع أكسب المنصب الرمزي مضمونا، وجعله ذا معنى، فقد واصل السعي إلى السلام وتحقيق القيم التي آمن بها، ولا يقل عن ذلك دفع الزمن إلى الامام، لتحسين انجازات اسرائيل في مجال العلم.
ورغم سنه، اتصل جدا بجيل التكنولوجيا العليا. وحتى بعد أن أنهى منصبه، قبل نحو سنتين، لم يتوقف للحظة.
لم يذهب لصيد السمك أو للراحة. صباح أول من أمس عادت روحه لبارئها.
هذا هو تاريخ حياته، والذي يمثل جيدا تاريخ دولة اسرائيل.
«دوما ابق يهوديا»
ولد بيريس في آب 1923 في مدينة فيشنبه في بولندا، ابناً لعائلة ثرية تتاجر بالاشجار وتنتج الاحذية.
في المدرسة المحلية تعلم العبرية لدى يهوشع رابينوبتش، الذي اصبح لاحقا رئيس بلدية تل أبيب ووزير المالية.
في تلك الفترة شارك في دائرة مندولينا دون أن يبرز فيها، وتميز بالمحاكاة وكتابة الشعر.
وكان المعلمون يحبونه، أما التلاميذ فأقل.
في كل مرة ضربوه فيها اضطر لمعونة غرشون، شقيقه الاصغر بسنتين ونصف السنة. عندما كان بيريس الفتى ابن 12 هاجرت العائلة إلى «بلاد اسرائيل» واستقرت في تل أبيب. وعندما ودع جده من أمه، الحاخام تسفي ملتسار، أمره الاخير «دوما ابق يهوديا».
وكانت هذه آخر مرة يلتقيان، عائلتا ملتسار وبريسكي قضي عليهما في الكارثة.
ضاعت أملاك عائلة بيريس بسرعة. ابوه الذي كان تاجرا ثريا اصبح صاحب مطعم صغير في منطقة شارع اللنبي.
شمعون واخوانه ارسلوا إلى مدرسة بلفور، حيث احب اللغة الفرنسية التي سترافقه حتى يوم وفاته.
في سن الـ 14 انضم إلى حركة الشبيبة العاملة والمتعلمة واصبح لاحقا رئيسها.
بعد سنة من ذلك جمع حقيبته وابلغ أبويه بأنه سيذهب للتعلم في قرية الشبيبة بن شيمن، التي لم تمنح الشهادة الثانوية لتلاميذها كما روى ذات مرة، ولكنها منحتهم عالما من القيم الصهيونية والانسانية.
وكانت لهذه الثانوية نشرة داخلية نشر فيها بيريس مقالات اولى تحت اسم «بن أموتس» الى أن جاء دان بن أموتس، الذي كان يسمى في حينه دان تهيلمزغعر، وسلب منه الاسم، هكذا على الاقل تروي الاسطورة.
كان بيريس نشيطا سياسيا منذ الصغر، واذا سألتم الناس الذين أحاطوه على مدى السنين، فقد ولد للسياسة.
وقال لمقربيه: «الطموح ليس كلمة فظة»، وقاده طموحه ليكون شريكا في العصبة الشابة والواعدة التي رافقت رئيس الوزراء الاول دافيد بن غوريون، مع موشيه دايان، تيدي كوليك، واسحق نافون.
بدأت علاقاته مع بن غوريون بالصدفة تقريبا منذ عهد الثانوية.
ومن عرفهما على بعضهما هو بيرل كتسنلسون، شخصية اسطورية اخرى كان لبيريس شرف التعرف اليها.
عندما كان يريد أن يذهب إلى حيفا لشؤون الحركة، كان كتسنلسون يرتب له رحلة مجاناً مع بن غوريون الذي خطب له عن الايديولوجيا.
ابن 29 بالاجمال، عينه بن غوريون مديرا عاما لوزارة الدفاع – المنصب الذي كان يصله اساسا جنرالات متقاعدون، معظمهم لا يقلون عن سن الخمسين، وكل ذلك دون أن يكون بيريس الشاب قد خدم يوما واحدا في الجيش، ما اغضب جدا الرفاق من «البلماخ».
عندما كتب حاييم حيفر قصيدة «كيف صعد الفشفش إلى أعلى» سخرت العصبة فقالت انه كتب ذلك عن المدير العام الشاب. وبينما كانوا هم يسخرون أقام بيريس المفاعل في ديمونا، دفع الى الامام اقامة الصناعة الجوية، وانضج عدة صفقات سلاح هي الاكثر تعقيدا في الدولة، ولا سيما في الخمسينيات والستينيات مع الفرنسيين. في شباط 1957، بعد نشاط مكثف في مجال المشتريات، منح بيريس وسام الشرف من الرئيس الفرنسي.
مع بن غوريون على طول الطريق
كان حزبيا، سياسيا، رجل كتاب، حالما ومجسدا، رجل العالم الكبير، متفانيا وملتزما برؤيا الشرق الأوسط خاصته – التي اجتازت تغييرات على مدى السنين – وكذا شخصاً مع أنا كبيرة.
بدأ طريقه السياسي عمليا مع اعتزال بن غوريون لأول مرة في العام 1953، وخلف وراءه في وزارة الدفاع ثلاثة كانوا منتخب الاحلام: بنحاس لفون، وزيرا للدفاع، موشيه دايان، رئيسا للاركان وشمعون بيريس، مديرا عاما.
اعجب بيريس بدايان، ولكن العلاقات لم تكن متبادلة.
دايان، الفلاح، رأى في بيريس رجل منفى، ليس بطل حرب مثله.
وتحدث المقربون عن أن بن غوريون وزع إرثه بين الرجلين، حين منح دايان الزعامة فيما منح بيريس الرؤيا.
وكانت هذه على ما يبدو المرة الاولى التي لاحظ فيها احد ما بيريس كرجل حالم. أول مرة يدخل فيها الكنيست كانت في انتخابات 1959 حين حصل حزب مباي على 47 مقعدا – الأكثر منذئذ وحتى اليوم.
وبيريس ابن الـ 33 فقط عين نائبا لوزير الدفاع بن غوريون.
واثار انتخابه نفورا داخل الحزب، واغضب غولدا مائير اساسا.
وباقرار من بن غوريون فقط، كان بيريس الاصيل يخرج في جولات مستقلة في ارجاء اوروبا، وليس للمرة الاخيرة في تاريخه، وهكذا تجاوز في واقع الامر وزيرة الخارجية.
في 1965، عندما انسحب بن غوريون من «مباي»، سار وراءه بيريس واقاما معا قائمة «رافي».
وجاء الاحتجاج الاول من ضابط صغير يدعى رفائيل ايتان، فيما احتج أيضا على ذلك اسحق رابين ولكنه لم يتجرأ على الصراخ على الختيار.
اما بيريس نفسه فقد رهن الثلاجة التي في بيته كي يحصل على بعض المال للنفقات.
في تلك الانتخابات مع ان «رافي» خسرت لصالح «المعراخ» الا ان بيريس عاد.
بعد أربع سنوات من ذلك عاد ليكون وزيرا في حكومة غولدا بالذات، في البداية وزيرا دون وزارة وبعد ذلك وزيرا للحقائب التي لم يرغب فيها احد: الاستيعاب، المواصلات والبريد التي تغير اسمها ليصبح وزارة الاتصالات.
وبشكل متراكم كان عضوا في الكنيست لـ 48 سنة. أكثر من أي نائب آخر، وعمل وزيرا تحت سلسلة طويلة من رؤساء الوزراء: بدءاً باسحق رابين، خصمه الخالد الذي اصبح شريكه في الكفاح في سبيل السلام؛ عبر ايهود باراك؛ وانتهاء باسحق شامير، ايهود اولمرت، وارئيل شارون، «الليكوديين» القدامى.
اذا كان بيريس يعتبر اليوم رمزاً للسعي وراء السلام، فلم يكن الامر هكذا في الماضي بالضرورة.
فبيريس كان من المسؤولين عن تأسيس مستوطنة سبسطيا، المستوطنة الاولى لاسرائيل.
كان شريكا أيضا في بناء مستوطنات اخرى بل وقال: «اذا كان اليهود يمكنهم ان يسكنوا في الارجنتين او في كل دولة اخرى، فلماذا لا يمكنهم ان يسكنوا في كل مكان تحت حكومة اسرائيلية».
وحتى اليوم تدور معركة روايات عما قصده حين سجل على بطاقة «30» – فهل قصد اقرار صعود 30 شخصا أم 30 عائلة.
وفي كل الاحوال ادعى لاحقا بأنه لا يعارض اليوم ايضا سكن اليهود في كل مكان، بما في ذلك في «المناطق»، ولكن ليس بالضرورة تحت حكم اسرائيلي.
في المجال الامني، ترك أثرا ايضا كوزير للدفاع في 1976، حين، خلافا لعدم حماسة رئيس الوزراء رابين ورئيس الاركان موتي غور، أيد حملة انقاذ مخطوفي عنتيبة رغم المخاطر الكثيرة.
«مجلس الخيال» هكذا سمي بيريس ومجموعة الجنرالات الذين ايدوا الحملة الجريئة.
وفي المقابلة الاخيرة التي منحها لـ «يديعوت احرونوت» في تموز الماضي، اعترف بيريس وروى بأنه بكي مرتين في حياته: في المرة الاولى عندما ماتت امه، في سن 60. في المرة الثانية عندما سمع بأن قائد العملية المقدم يوني نتنياهو قتل. «بكيت في حينه بسبب يوني ولكن ايضا لأني علمت بأن العملية نجحت فأزيح حجر عن قلبي. لأسبوع كنت في توتر هائل، وحدي. عرفت انه اذا فشلت العملية فلن يكون هناك احد لا يقول إن هذا بذنبي وسيعلقونني في ميدان المدينة».
الذي لا ينتخب !
كان بيريس رئيس وزراء مرتين، مرتين قصيرتين جدا بالنسبة لمن كان هذا طموح حياته.
المرة الاولى كان في 1984، بعد انتخابات الكنيست الـ 11 واتفاق التداول الذي وقعه «المعراخ» مع «الليكود» لعدم قدرة أي من الحزبين على تشكيل حكومة مستقرة.
في 1986 نقل المنصب لاسحق شامير.
لم تمنع الولايات القصيرة بيريس من اتخاذ خطوات حرجة لتثبيت المكانة الامنية والاقتصادية لاسرائيل. فقد قاد مع رابين كوزير للدفاع خروج الجيش الاسرائيلي من اعماق لبنان واقامة «الحزام الامني».
وبالتوازي قاد مع وزير المالية اسحق موداعي ومحافظ بنك اسرائيل ميخائيل برونو الخطة لاستقرار الاقتصاد – خطوة دراماتيكية، تكاد تكون متعذرة، لوقف التضخم المالي الذي وصل مئات في المئة في السنة.
اثناء الفترة القصيرة عمل بيريس على هجرة يهود اثيوبيا في حملة موشيه، وعقد زيارة مفاجئة في المغرب ولدت آمالا عظيمة، وبعد التداول اصبح وزيراً للخارجية، والتقى سرا الملك حسين في لندن حيث بلورا اتفاقا سمي لاحقا «اتفاق لندن» وكان يفترض أن يرتب مفاوضات اسرائيلية – فلسطينية بقيادة اردنية ورعاية اميركية، ولكن بيريس لم يشرك في ذلك رئيس الوزراء شامير، ما أثار الغضب فضاعت الفرصة.
ولعله ليس عبثا ان الصقت به ميزة عدم الولاء. فقد كتب عنه اسحق رابين في كتابه «سجل خدمة» بأنه «متآمر لا يكل ولا يمل».
في 1993 فقط وصل إلى الراحة والطمأنينة عندما حقق بعد اشهر طويلة من العمل المجتهد، والسري أساسا، اتفاق اوسلو.
حصل هذا في 13 ايلول، بالضبط في اليوم الذي ادخل فيه الى المستشفى إثر جلطة دماغية.
واذا كان بصعود سبسطيا الى الارض اصبح بيريس عزيز المستوطنين ففي «اوسلو» اصبح كريه روحهم.
المرة الثانية التي اصبح فيها بيريس رئيس وزراء كانت في ظروف مأساوية دراماتيكية. في 4 تشرين الثاني 1994 قتل رئيس الوزراء، اسحق رابين، ومع ان الرجلين تمكنا من الخصام في كل مسألة قبل لحظة من المهرجان، الا ان الصورة التي تبقت في الذاكرة الجماعية هي انشادهما معا «نشيد السلام» على المنصة في ميدان ملوك اسرائيل في حينه.
اعترف القاتل يغئال عمير بأنه رأى بيريس ينزل على الدرج ولكنه حبذ انتظار رابين.
بعد وفاة رابين أخذ بيريس الخيوط في يده ولكنه اراد أن ينتخب بفضله ذاته.
تولى الحكم سبعة اشهر حتى ايار 1996 وعندها خرج لانتخابات خسر فيها بفارق طفيف لصالح بنيامين نتنياهو.
وفي هذه الولايات القصيرة ترك بيريس أثره ايضاً، إذ صفت اسرائيل «المهندس» يحيى عياش، وردا على ذلك ردت «حماس» بسلسلة من العمليات التفجيرية التي أدت الى موت عشرات الاسرائيليين.
لم يجلب بيريس الامن حتى في حملة «عناقيد الغضب» التي بعث اليها الجيش في أعقاب نار الكاتيوشا في الشمال.
وفي نهاية المطاف ارتدت هذه الخطوات عليه كالسهم المرتد وساعدت نتنياهو على الانتصار عليه.
«بيريس هو رجل العودة المطلق»، قال عنه الرئيس براك اوباما، عندما قررت الولايات المتحدة منحه ميدالية الحرية الرئاسية – وهو الشرف الاستثنائي. لقد كان رجل العودة المطلق عنيدا كالبغل. تنازل للحظة، حتى سبع سنوات في ولايته كرئيس ولكن هذه لم تبطل الطعم المرير للفشل الذي ألصقه به تعبير «لوزر» (خاسر) الذي وصف به.
لم يسر أي شيء من حياته بسهولة. وكذا الرئاسة ايضا. ففي المرة التي تنافس فيها خسر لصالح موشيه قصاب الذي نال تعاطف المتدينين.
اما في 2007 في اعقاب قضية قصاب وظهوره كمجرم جنس فقد نال بيريس الصدارة.
لقد كتب عنه ذات مرة بأن كل واحد لم يحب بيريس في مرحلة ما، ولكنه اصبح الرئيس المحبوب لدولة اسرائيل والذي يحظى باحترام العالم كله.
قال بعد الاحتفال في البيت الابيض: «انا لا انفعل لتلقي الميدالية بل انفعل لما يمثله هذا الاحتفال».
عن «يديعوت»