قبل 18 سنة، كجزء من برنامج تلفزيوني عن محطات في حياة شمعون بيريس، اقترح علي أن آتي معه لزيارة مسقط رأسه فيشنيبا في روسيا البيضاء. وصلنا الى بيت قروي غير كبير، معظمه من الخشب، وله ساحة واسعة كان يتراكض الدجاج فيها. ورغم التحذيرات من شرب المياه من البئر في الساحة («تشيرنوبيل سممت الارض»، شرح المحليون)، أنزل بيريس بيديه الدلو المربوط بسلسلة الى داخل البئر، نشله، صب الماء في وعاء من الصفيح وشرب بحماسة ماء صباه. بعد ذلك روى بأنه كطفل كان متديناً، وانه ذات مرة كسر جهاز الراديو التابع لابيه لانه احب أن يشعله في السبت. سألته اذا كان أبوه ضربه في أي مرة.
«لم يضربني أحد»، قال بيريس بنوع من الفخر.
«لا احد؟»، سألت، «ماذا، ألم تتعارك مع الاولاد في المدرسة، ألم تتعرض للضرب وأنتم تلعبون؟»
«ولا مرة. لم يضربني أحد أبدا، وانا أيضا لم أضرب احداً».
فكرت في حينه: هو، كشخصية عامة، ضُرب وهوجم مرات لا تحصى، في وسائل الاعلام وفي الكنيست وفي الفضاء الجماهيري الإسرائيلي. وهو لم يجرب على جلدته التجربة الاولى التي يشهدها تقريبا كل طفل. فكرت بان هذا «مفتاح» ممكن، واحد من بين الكثير، لشخصيته، لشكل اتصاله بالعالم.
«انتهى عصر»، يقول المؤبنون، بمن فيهم ايضا زعماء اليمين ممن نغصوا عليه حياته وسخروا من «هذيانه عن السلام». ولكن عصر بيريس، ورؤيا بيريس، انتهيا عمليا قبل سنين، في منتصف التسعينيات، عندما اغتيل رابين، وفي واقع الامر قبل ذلك، عندما انهارت اتفاقات اوسلو.
«مجرمو اوسلو»، هتفوا ضده وضد رابين في مظاهرات اليمين، والقوا عليهما بالمسؤولية عن نحو الف قتيل اسرائيلي في موجات «الارهاب» التي جاءت بعد انهيار الاتفاق. وكأنه لو لم يوقع الاتفاق لكان الفلسطينيون واصلوا العيش بخنوع وبتسليم سلبي تحت الاحتلال الاسرائيلي، حتى نهاية العالم.
ولعل الكراهية لبيريس في تلك السنين كانت ايضا بسبب حقيقة أنه- بحدة لسانه، بقدرته النادرة على بعث الامل، وفتح نافذة للمستقبل – نجح في دفع الاسرائيليين المتشككين، ممن خلفت الحروب الندوب فيهم، الى الايمان، ولو لزمن قصير فقط وبخلاف تام مع غرائزهم، بانه توجد امكانية وجودية في أن يكون لهم مستقبل آخر، مستقبل سلام. وقد شعر الاسرائيليون وكأنهم وافقوا على السير وراء اغراء رؤيا «الشرق الاوسط الجديد» التي رسمها بيريس، خانوا مصير الحروب والكوارث، المصير الذي نحمله على جلدتنا على مدى كل تاريخنا المأساوي.
وعندما انهار اتفاق اوسلو، وخاب الامل الذي اتخذناه لاسفنا ولو لحظة، لم يغفروا له.
بيريس كان إنسانا يتجه نحو المستقبل بكليته. في دولة تجتذب عميقا أكثر فأكثر الى الرواية الاسطورية، الدينية، القبلية، كان هو من اولئك الذين توجهوا الى الكونية، الى العلم، الى العقلانية والى ديمقراطية والمعرفة الحرة. كان من اولئك الذين يلقون على أنفسهم نوعا من المرسى الى مستقبل بعيد، غير مرئي، خيالي، طوباوي ومتفائل، ويبدؤون بالقوة جذب أنفسهم اليه.
وهاكم مثالا صغيرا على نمط تفكير وعمل بيريس: روى لي حين كان يقترب من التسعين فقال: «جئت الى بوتين وقلت له هكذا: بعد سنة تنتهي ملكية مصر على النيل. فقد انتهى مفعول الاتفاق التاريخي مع بريطانيا وفرنسا. وتطالب أثيوبيا منذ الان بالحصول على المياه، وهناك خطر لاشتعال حرب. تعال نذهب كلانا معا الى مرسي (الذي كان في حينه رئيس مصر) ونقول له هكذا: نحن، اسرائيل، يمكننا أن نعطيك ثلاثة نيلات! يوجد لدينا العلم والتكنولوجيا لمضاعفة مياه مصر!». وواصل بيريس يقول ان «مرسي لن يستمع الي، ولكن انت، يا بوتين، سيستمع اليك. ولكننا لن نفعل هذا كمبادرة من الدولتين، فالدول باتت ماضياً، بل سنأتي عبر الشركات الكبرى، فهي التي تدير العالم اليوم...».
هكذا فكر وهكذا عمل كل حياته: الحاضر (الباعث على اليأس، الهزيل، والضحل) كان بالنسبة له مجرد عائق مؤقت محظور الاستسلام له. فالتنازل ببساطة لم يكن خيارا. اما عدم قيام نتنياهو بأي فعل في كل ما يتعلق باعادة تحريك المفاوضات مع الفلسطينيين، فقد أخرجه عن طوره. فقد كان نقيض طبيعته، التي دفعته بلا انقطاع الى الامام، في حركات من الابداع والاثمار والمبادرة.
بين الحين والآخر حين كنت أتحدث اليه، شعرت بما أخفاه علنا خلف تفاؤله الذي لا ينتهي – كم هو قلق في ضوء القومية المتطرفة والتزمت الذي يخلقه اليأس في اسرائيل. فقد كان يعرف – ولم يسلم بذلك حتى آخر ايامه – بانه ينشأ هنا واقع كارثي، للشعبين، وانه هو نفسه، بيريس، يوجد في المعسكر الذي هزمه التاريخ.
لقد فعل امورا عظيمة، ساهم مساهمة هائلة لدولة اسرائيل في مجالات الامن، الاقتصاد، والعلم. ولكنه فشل في الشيء الذي اراد تحقيقه اكثر من أي شيء آخر؛ فهو لم ينجح في أن يحمل اسرائيل الى وضع سلام مع جيرانها. فدوما كان يخيل في لحظة الحسم، حين تكون ثمة حاجة الى خطوة شجاعة ومصممة حقا – لم يتجرأ بما يكفي، لم يعمل بالحزم الذي وعد به.
رجل تناقضات وتقلبات: فتى حلم بان يكون «راعي غنم وشاعر نجوم»، اصبح زعيم أمة تعيش معظم حياتها في حرب وسفك دماء. رجل ثقافة وتعليم واسع وقيم انسانية عميقة، على ضميره يربض موت – في العام 1995 – مئة لاجئ اصيبوا بقذيفة اسرائيلية اطلقت على كفر قانا في لبنان. سياسي، رفض على مدى السنين إقامة دولة فلسطينية، وأيد المستوطنات، تحول الى سياسي رمز اكثر من أي شخص آخر الى الاستعداد للحل الوسط مع الفلسطينيين والسعي الى السلام معهم. عديم الكوابح والمتلاعب في صراعاته مع خصومه، ولكنه شخص كانت فيه – ولا يمكن الا يشعر المرء بها – عظمة حقيقية.
لا بد سيأتي الوقت لمحاولة فهم شخصيته بعمق. ربما بالذات المزايا التي جعلت منه شخصا على هذا القدر من التعقيد والتشويق، ردعت معظم الجمهور في اسرائيل من انتخابه كزعيم سياسي. اسحق رابين، الذي صارعه عشرات السنين، كان – معظم حياته – محبوبا اكثر على الاسرائيليين، مفهوما لهم اكثر، لغزه سهل عليهم. أما الشخصية المعقدة لبيريس فكانت هي التي منعت انتصاره في الانتخابات بل ايضا الامر الذي ناله زعماء أقل كفاءة منه – محبة الجماهير.
لأن بيريس، دوماً، منذ بداية طريقه في السياسة، كان شخصا مهما، ولكن ليس محبوبا حقا. ليس شخصا من الجماعة، ليس من يعرف كيف يتحدث مع الاسرائيليين من القلب الى القلب، او للدقة – من القلب الى البطن. وعليه، فقد أحسنت له جدا سنواته الاخيرة في بيت الرئيس. فعندها، لاول مرة، نال محبة معظم الجمهور في اسرائيل، الاحساس بانه ها هو نجح في أن يجد مكانه في قلب اولئك الذين رأوا فيه دوما هاذيا، وغير مرة خائنا.
هكذا سأتذكره: ذات مساء هاتفته في بيت الرئيس، كي أجنده لفكرة ما اعتقدت أنها ستثير اهتمامه. فسألني: «لماذا بالهاتف؟ هل أنت متفرغ؟ تعال الى العشاء».
كان بيت الرئيس مظلما في قسم منه، وبدا بيريس وحيدا وعجوزا بين حراسه الشبان. عندما دخلت الى غرفته وقف. واشعلت نظرته حياة: وعلى الفور بدأ بخطاب منفرد عن ضعف حكومات العالم اليوم، غير القادرة على حل أي مشكلة جوهرية، لا في الامن، لا مشكلة الارهاب، ولا الاقتصاد. وبعد ذلك روى عن المشروع العلمي الجديد لـ «مركز بيريس للسلام»، الذي سيكون «المرحلة التالية في عالم الطب»: «نحن سنبدأ قريبا في الحصول على أدويتنا من داخل الفاكهة! كل شيء سيكون هناك من أدوية وجع الرأس وحتى مضادات الشيخوخة!». وانتقل الى الحديث عن النانو تكنولوجيا وعن ميدان القتال المستقبلي الذي ستظهر فيه أدوات الكترونية موجهة من بعيد؛ وتحدث عن «العدو الاكبر للديمقراطية في العالم العربي – الازواج الذين يحاولون حرمان نسائهم من المساواة»، وعن الكتب الخمسة التي يقرأها الآن، دفعة واحدة: واحد منها كان «خمسون ظلاً للون القاتم».
الوجبة نفسها كانت متواضعة، مثل الوجبة في عهد الكيبوتس: عجة مع فطر، سلطة خضار مقطعة دقيقا مع الجبن، صحون من جبنة الكوتج، الخبز وكأس من الخمر الاحمر أيضا. تحدث، وضحك. روى عن اللقاء التاريخي – الذي حضره بين بن غوريون وديغول. نظرت اليه وهو يتحدث: في السنوات التي تعرفت فيها عليه أحببته وقدرته جدا. وتناقضاته بالذات جعلته في نظري رجلا مثيرا للانفعال ويمس شغاف القلب. فكرت – هذا الرجل شهد تقريبا قرنا كاملا ماضيا، وبطريقته ترك عليه أثره. قليلون جدا من الناس من عاشوا حياة مليئة ومشوقه مثله. قلت له هذا. فأشاح بيده قائلا: «انا بدأت فقط»، ضحك. للحظة بدا سعيدا وكأنه صدق قوله.