هل تذكرون الهبة قبل عام؟ إنه الحدث الأبرز والشكل الكفاحي الذي ابتدعه جيل جديد لم يصب بلوثة الأحزاب ولا حسابات المصالح، لم تنحرف بوصلته بعد، ظلت تؤشر نحو القدس، جيل عاد من بعيد ليعلمنا النقاء الثوري مفعما بطهرانية ضاعت وسط الصراع على السلطة وحساباتها، الصراع الذي أطاح بكل ما هو جميل لدينا وتأكد ذلك بعد نموذج الهبة واتضح أنه عائق أمام تقدمنا وتحول إلى صخرة عاتية أمام إبحار سفينتنا.
قبل عام كنا أكثر حذرا في إطلاق التسمية أمام وسائل الإعلام خاصة التابعة للفصائل التي أسرعت منذ الأيام الأولى بإطلاق لقب «انتفاضة»، كان مذيعو الإذاعات يستغربون ترددنا عندما كنا نحاول أن نشرح كيف أن هذه الهبة لن تتحول إلى انتفاضة فالمسألة هنا ليست تخمينا بقدر ما أن الظرف الذاتي للفلسطينيين أعجز من ان يصنع انتفاضة، فمحركات الشعوب الثورية تحتاج إلى تربة تتغذى منها وتقف على أقدامها على أرض صلبة كي تستمر وهذا لم يكن.
البيئة التي انفجرت فيها الهبة كانت ناضجة تجاه الصدام مع الاحتلال حيث انغلاق الأفق السياسي والعسكري حتى بعد الحرب على غزة وعدم قدرة طرفي الخلاف في الساحة الفلسطينية من تحقيق أي إنجاز يذكر، وبالتالي بدا كأن الإسرائيلي يضع كل إمكانياته لتثبيت الوضع الراهن في السيطرة الأبدية على الشعب الفلسطيني، هذا دفع جيل الشباب لتعبئة الفراغ السياسي الناجم بما امتلكوه من براءة وبساطة الأدوات معلنين ثورة ظنوا أن الفصائل والشعب سيلتحق بهم.
لكنها لم تكن ناضجة وسط حالة الشك والتربص التي تعيشها الفصائل فالسلطة تخشى من حركة حماس أن تدحرج الأمور باتجاه تكرار نموذج غزة الذي بدأ بانتفاضة وانتهى بنصب حواجز لقواتها ثم طردها نهائيا و»حماس» تخشى النزول للشارع وكشف قوتها خوفا من اعتقال أجهزة الأمن أو تخشى أن يفتح ضغط تولده الانتفاضة مسارا سياسيا يستفيد منه خصمها اللدود، ووسط هذه الأجزاء يبدو الحديث عن انتفاضة شيئا من الأمنيات ليس أكثر أو انه ناتج عن قراءة خاطئة لواقع أكثر إحباطا.
الذي حدث أن هؤلاء الشباب تركوا وحدهم أمام حسابات المصالح الكبرى حيث اصطفت الفصائل على الجدار ترقب وتحسب الربح والخسارة مبتعدة عن النزول بما تملكه من إمكانيات هائلة بإمكانها أن تجعل الأرض تهتز تحت أقدام الاحتلال، ولكن الحسابات الصغيرة كانت أكبر من الحسابات الكبرى، ظلت الفصائل تحرض الشباب دون أن تهبط من علياء المصالح والمناصب غير مدركة أن اللحظة حانت لإحداث اختراق في الجدار الحديدي الذي وضعه الاحتلال متمثلا بانسداد الأفق.
لكن الحديث عن الهبة يستدعي أيضا الحديث عن انتفاضة الأقصى الثانية والتي تتزامن ذكراها السادسة عشرة هذه الأيام وهذا طبيعي حيث تبلغ عادة هذا الوقت من العام ذروة استفزاز المستوطنين واقتحاماتهم للأقصى نظرا لمصادفة الأعياد اليهودية والتي تتكثف فيها زيارات اليهود للقدس، فقد انطلقت الانتفاضة من هناك وحاولت الهبة أن تلتقط الراية من نفس المكان .. وكلا الانتفاضة والهبة لم تحقق شيئا في تاريخ الكفاح الفلسطيني، وهذا ربما مدعاة لتساؤل كبير ليس حول جدوى الكفاح الفلسطيني وأشكاله بل عن مدى قدرتنا على إدارة معاركنا مع إسرائيل وقدرتنا على استثمار تلك المعارك، ففي حسابات الخسائر والأثمان الباهظة التي دفعت على الطريق قياسا بـ»صفر» إنجازات نكتشف أننا أمام حالة ليست جديرة بإدارتنا، حالة حزبية راسبة في امتحان الجدارة واختبار الإدارة.
الهبة والانتفاضة تصلحان للقياس وهما مؤشر على جدية الفلسطيني في تعامله مع الأحداث بأقصوية لا حدود لها، إما الاندلاق حتى النهاية كما حدث في الانتفاضة الأولى حيث رفعنا مستوى الصدام بأكثر من طاقتنا أو الهروب كما النعامة كما حدث بالهبة قبل عام وكأننا لا نعرف الحلول الوسط ولا الإدارة الهادئة ذات الطابع الاستراتيجي، إما أن نحرق كل السفن وإما لا نركب السفن أصلا، إما أن نفاوض للأبد أو نفتح حروبا غير متكافئة ونضرب رؤوسنا في كل الجدران للأبد، وإما أن نفاوض بلا حدود أو نقاوم بلا حدود، إنها حدية لا تصلح لإدارة الشعوب لأن الإنجاز صفر الذي حققناه في العقدين الماضيين يقول بلا تردد «لدينا مشكلة كبيرة».
تلك المشكلة باتت واضحة في كل الأشياء من حولنا، في كل خطوة نتخذها وفي كل سلوك سياسي نفكر به، وهي مستمدة من تجربتنا القصيرة في إدارة شعبنا ومستمدة أكثر من تراث عربي لا يعرف الحلول الوسط بعكس كل النظم والأحزاب التي تمكنت من النجاة بشعوبها إلى بر الأمان فيما أغرقتنا أحزابنا في كومة من المستنقعات وأسوأها مستنقع الانقسام الذي يبدو أن لا خلاص منه بالرغم مما يشاع عن جولات حوارات إلا أن التجربة برهنت على عجزنا أيضا في إنهائه لأن العقل الذي يفكر بأقصوية لا حدود لها أيضا يتحكم في محاولة التوافق ويحول دون إتمامها.
لذا من الطبيعي أن نجد أنفسنا في مأزق كبير.. صحيح أن الإسرائيلي يخطط ليل نهار لإيقاعنا ولكن إدارتنا الفاشلة لكل الأشياء لدينا هي ذراع الإسرائيلي الضاربة في إبقائنا في الحضيض. كيف يمكن أن نوصف حالتنا وصراعنا في العقدين الأخيرين ونحن نتنازع البرامج وكل منا يعتقد أنه وحده بما لا يملكه من قوة ورباط خيل قادر على إنقاذنا وإذ بنا نغرق أكثر دون أن يعترف أحد بأنه أودى بنا إلى الجحيم، فالأرض تم ابتلاعها والدولة تآكلت والمفاوضات توقفت والمقاومة لم تحرر أرضا وبقيت غزة تعد سنوات السجن والحصار، وندير أمورنا بفهلوة لا تصلح لإدارة حي شعبي لأن الثمن كان كبيرا وما تحقق مدعاة للخجل. أعرفتم لماذا لم تكن انتفاضة ولو كانت سنتخوف من الذهاب بعيدا، نحن بحاجة إلى التفكير الوسطي بعيدا عن المغامرات التي حكمت تجربتنا وأوجدت كل هذا الركام الوطني..!