لطالما نظرتُ لشمعون بيريز على أنه "فاشل"، رغم كل إنجازاته للإسرائيليين؛ وأنّه شخص لديه أزمة نفسية وشخصية. رغم ما كان يحاول أن يظهر به من مظهر المفكر، الدبلوماسي، الجذاب، كانت لديه ربما مشكلة؛ عاش عقدة أن يكون "الشخص الثاني" دائماً تقريباً، وإن كان لم يخجل يوماً من المحاولة ثانية. يبدو للرسميين نجيباً واعداً، ولكن الناس لا تقتنع به.
ولد بيريز، الذي مات هذا الأسبوع، في روسيا البيضاء (كانت حينها جزءاً من بولندا)، في آب (أغسطس) 1923، في قرية سكانها نحو 3500 من اليهود، فيها كنيسان، وحمّام عام، ولا شيء تقريباً غير ذلك. وبجانب اللغة البولندية، علّمه أهله العبرية مع لغة اليديش، لغته الأم. وبينما كان والده تاجراً، اعتنى جده بتعليمه الدين اليهودي والتلمود. ولعل هذه اللغات الثلاث أثقلت لسانه، فظلت لكنته بالإنجليزية غريبة. الطفل النجيب، الذي درس اللغات والموسيقى والدين، وبإرشاد جده ذهب يعزف الكمان في الكنيس والأعياد.
انخرط عندما هاجر مع عائلته لفلسطين، العام 1933، في حياة المستوطنات الزراعية الاشتراكية (الكيبوتس)، وانتخب في سن العشرين رئيساً لحركة شباب الصهيونية الاشتراكية. لكن يبدو أنّ هذه (العام 1943) آخر الانتصارات الانتخابية الحقيقية، وبعدها لم ينل كثيراً ثقة الناخبين، وإن ظل يعرف العمل مع النخب والكبار، تماماً كما كان ينال رضا جده.
أنهى دراسته في هارفارد في الولايات المتحدة. وفي العام 1953، قبل أن يصل الثلاثين من عمره، عينه رئيس الوزراء حينها، ديفيد بن غوريون، مديراً عاماً لوزارة الدفاع، فلعب دوراً تاريخياً في التقارب مع فرنسا وإنشاء المفاعل النووي في ديمونا. وكان يدخل البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) عبر انتخابه ضمن قوائم حزب العمل (لا تجرى الانتخابات بشكل فردي). لكنه فشل في أن ينتخب من قبل الناس لموقع مهم، وغالبا ما استلم مناصبه ضمن ظروف درامية استثنائية. فمثلا في العام 1974، عينته رئيسة الوزراء غولدا مائير، وزيرا للدفاع، بعد إخراج موشيه دايان من الحكومة. وتولى رئاسة الوزارة لفترة وجيزة العام 1977، بعد استقالة اسحق رابين، بسبب اتهامه وزوجته بمخالفات مالية. وما إن تولى بيريز الرئاسة حتى خسر حزب العمل الانتخابات، بعد أن فاز فيها ثلاثين عاماً متواصلة. وهناك أحاديث عن دور في فضيحة رابين تلك، وربما لذلك فإنّ رابين سمى بيريز في مذكراته بأنّه "متآمر بلا كلل".
لم يصل بيريز لرئاسة الحكومة بالانتخاب سوى "نصف مرة"، عندما تقاسم مع حزب الليكود رئاسة الحكومة العام 1984، فتولى هو واسحق شامير الرئاسة، عامين لكل منهما. وفي الانتخابات التالية خسر، لكنه استمر في الحكومة، وزيرا للمالية مع شامير، لتنفجر العام 1990 فضيحة سميت "الخدعة القذرة" التي قادها بيريز بالتواطؤ سراً مع الأحزاب الأصولية اليهودية، لتشكيل حكومة بديلة. وبالفعل، استقالت الحكومة بعد حجب الثقة عنها، لكن بيريز فشل في تشكيل حكومة جديدة، بعد تراجع الأصوليين، وأعيد تكليف شامير.
ولم يعد "العمل" للقيادة إلا بعودة رابين، الذي جرى اغتياله العام 1996، ليتسلم بيريز الحكم مجددا لأن سلفه مات، لا لأنه فاز. وارتكب بيريز سلسلة أخطاء؛ فبدل جعل التسوية مع الفلسطينيين استراتيجية، حاول في الأشهر السابقة للانتخابات الجديدة الظهور كبطل عسكري، ففوض الجيش بقتل القيادي في "حماس" يحيى عياش، فردت "حماس" بعمليات استشهادية؛ وفوض الجيش شن حرب في لبنان، تضمنت مجرزة "قانا"، وخسر الانتخابات لصالح بنيامين نتنياهو، السياسي المبتدئ حينها.
وحتى عندما حاول في العام 2000 الوصول لرئاسة الدولة، في الانتخابات التي تجرى في الكنيسيت، خسرها لصالح موشيه كتساف. ولم يصل للرئاسة سوى في العام 2007، في سن 83. وقد كره الإسرائيليون هذا المنصب، واقترحوا إلغاءه، إذ خرج كتساف بفضيحة تحرش جنسي (سجن بعدها)، وقبله تقاعد عايزر وايزمان بعد فضيحة مالية.
لطالما اختاره سياسيون، ووصل عبر ألاعيب، وبسبب أزمات درامية، لكنه نادرا ما حصل على تأييد شعبي. لذلك، ليس غريباً أن تعلق صحيفة "هآرتس" على جنازته بالقول: "حصل بيريز على الحب والاحترام اللذين طالما شعر بافتقادهما".
لعل سيرة بيريز بين "ناسه" كشأن "دولته" في العالم؛ تنجح مع الحكومات والنخب من دون شرعية شعبية.