ما بين نفي المصادر الأمنية الفلسطينية وتأكيد المصادر التابعة للإعلام الإسرائيلي، بإطلاق مجهولين للنار تجاه منزل الرئيس محمود عباس، تكمن حقيقة «مغامرة « الرئيس عند قيامه بالمشاركة في مراسيم تشييع رئيس «دولة إسرائيل» السابق، شريك أو حتى مناظر أبو مازن على الجانب الإسرائيلي في مطبخ التوصل لاتفاق أوسلو، في حين كان مناظر اسحق رابين الرئيس الراحل ياسر عرفات .
فالرئيس عباس، المعروف بجرأته وشجاعته ووضوحه، أقدم على القيام بخطوة، لا تحظى بالكثير من رضا الشارع الفلسطيني، بما فيه الفتحاوي نفسه، حيث تمثل فتح نبض الشارع وتعبر عن أغلبية المواطنين، لدرجة أن أصدرت الشبيبة الفتحاوية بيانا تعلن رفضها فيه المشاركة في تشييع بيريس، وكان عضو مركزية فتح توفيق الطيراوي « أبو حسين « كان أعلن قبل الإعلان عن قرار الرئيس بالمشاركة، بان ذلك سيقابل بردود فعل خطيرة.
كان يمكن للقيادة الفلسطينية أن تبعث مندوبا عنها، أقل من المستوى الأول، المتمثل بالرأس القيادي، كأن ترسل مثلا الأخ محمد المدني المسؤول عن ملف المتابعة مع قوى السلام الإسرائيلية، أو وزير الشؤون المدنية الأخ حسين الشيخ، أو حتى احد مسؤولي الأجهزة الأمنية، أو احد الوزراء أو حتى رئيس الحكومة نفسه، لكن ترؤس الوفد الفلسطيني من قبل الرئيس شخصيا، له دلالة هامة، وله تأثير أقوى، بدليل ردود الفعل على الجانبين، والتي جعلت من مشاركة الرئيس عباس، حدثا أهم من مشاركة الرئيس الأميركي.
ولأن الرئيس عباس هو رئيس (م ت ف) ورئيس السلطة ورئيس «فتح» لذا فان شخصه يمثل الكل الفلسطيني، ومشاركته في أي حدث تعني ما هو ابعد من المجاملة البروتوكولية، وهذا بالضبط ما هدفت له مشاركة الرئيس في تشييع شمعون بيريس، وبغض النظر عن الجانب الشخصي بين الرجلين اللذين صنعا أوسلو، ومن ثم قدماه على طبق من ذهب للقائدين عرفات ورابين، فان خلو الجانب الإسرائيلي من دعاة السلام، يجعل الرئيس عباس يقف وحده في مجابهة قوى التطرف ورفض الآخر على الجانبين، وليس على الجانب الفلسطيني وحسب.
لو أن فلسطين شاركت بوفد يخلو من الرئيس شخصيا، لمرّ الحدث دون أن يحرك ماء في بركة السلام والتفاوض الراكدة، وهذا ما سعى بيان «فتح» إلى توضيحه، بقوله بان المشاركة تمثل رسالة السلام الفلسطيني، الذي كان الرجلان قد صنعاه معا في أوسلو، قبل أكثر من عقدين من السنين، وحيث أن «فتح» قامت بمسؤوليتها، كان على «م ت ف» ولجنتها التنفيذية أن تفعل الشيء ذاته، كذلك الحكومة، ذلك أن الرئيس شارك بصفته رئيس الكل الفلسطيني وليس بصفته الفتحاوية.
في الحقيقة إن ذلك الهدف من المشاركة قد تحقق وعلى التو والفور، فالرئيس الأميركي باراك أوباما اضطر إلى ملاحظة وجود الرئيس الفلسطيني، والى القول عبر كلمته في تأبين بيريس إلى أن حضور الرئيس الفلسطيني تذكير بمهمة السلام التي لم تنجز، ولم تمض سوى أيام قليلة حتى حركت تلك المشاركة «المعسكر الإسرائيلي» المعارض من سباته، حيث أشار عضو الكنيست تيوسي يونا، إلى أن المعسكر الذي يقوده اسحق هيرتصوغ، سيخوض حوارا داخليا جديا في محاولة لخلق بديل (عن الحكومة) يقود إلى استئناف المفاوضات السلمية.
قد تبدو حاجة إسرائيل للبديل أولا قبل البحث في بديل اليمين بالحكم، عن بديل للمعارضة، التي التحقت بركب اليمين منذ عام 2002، أي حين انضم العمل بزعامة بنيامين بن اليعازر لحكومة الليكود برئاسة ارئيل شارون، ومن يومها فقد «العمل» جلده وهويته، ولم يستطع أن ينافس «الليكود» على قيادة إسرائيل.
وبغياب بيريس الذي كان قد تلاشى سياسيا، منذ عام 1996 حين سقط في مواجهة نتنياهو، واختفاء يوسي بيلين، حيث تزعم الصقور (باراك وبن اليعازر) «العمل» منذ ذلك الوقت، كذلك عدم رؤية معسكر السلام، بما في ذلك يوري افنيري، إلا بالمجهر، وبهذه المناسبة، يبرز السؤال حول وجود أي قوى سلام في إسرائيل، مع تفشي وانتشار اليمين واليمين المتطرف والأحزاب الدينية والأحزاب المؤيدة للاحتلال وللاستيطان، مثل البيت اليهودي وحتى «إسرائيل بيتينو».
يبدو أن إسرائيل قد تحولت إلى دولة « يمينية / دينية « متطرفة، لذا فان مهمة الجانب الفلسطيني باتت مركبة وصارت أصعب من ذي قبل، فقائد السلام الفلسطيني يجد نفسه مضطرا لمكافحة التطرف ورفض الآخر على الجانبين. يقاتل مثل دون كيشوت، طواحين الهواء، التي لا تبث سوى سموم الكراهية والعنف، ويبدو في بحثه عن السلام المفقود كمن يستجديه.
ومشاركة الرئيس عباس زعماء العالم في تشييع بيريس، تذكر بزيارة السادات للكنيست عام 77، الذي اضطر بعد 4 سنوات من الجمود بعد حرب أكتوبر وبعد صعود اليمين الإسرائيلي للحكم، أن يلجأ لحدث صادم، لكسر الجمود السياسي _ ولعمري أظن دائما بوجود أوجه تشابه كثيرة بين شخصية الرجلين (عباس والسادات) وهما قد جاءا بعد شخصيتي عبد الناصر وعرفات، وورثا ارثهما _ حين اختلف مع الأغلبية العربية بزيارة الكنيست، ومن ثم حقق بعد ذلك تحريراً لأرض مصر (سيناء بما فيها طابا) من الاحتلال الإسرائيلي.