العقيدة الإسرائيلية «السرية» للحرب: ضربة قوية أو استنزاف بدلاً من الحسم (1)

20160310210731
حجم الخط

على رفوف المؤسسة العسكرية/الأمنية وثائق عديدة محفوظة تعرّف "مفهوم الأمن [القومي]" لدى إسرائيل، وغالبيتها "مصنفة" [سرية].
وفي القسم غير المصنف يمكن تعداد كتابات بن - غوريون التأسيسية في خمسينيات القرن الماضي، وكتاب الجنرال (احتياط) يسرائيل طال، ومحاولة الجنرال (احتياط) دافيد عِفْري صياغة مفهوم للأمن في أواخر تسعينيات القرن الماضي، ومقتطفات سمح بنشرها من "تقرير لجنة مريدور"، وكتاب الجنرال (احتياط) بروفسور يتسحاق بن يسرائيل، ومنشورات تصف المسودة المعمقة، لكن "المصنفة"، التي أصدرها "مجلس الأمن القومي.   ومؤخراً، نشرت وثيقة "استراتيجيا الجيش الإسرائيلي" بتوقيع رئيس هيئة الأركان العامة [غادي أيزنكوت] (لاحقاً استراتيجيا 2015). وعلى الرغم من أن مفهوم الأمن الخاص بإسرائيل لا يعنى فقط بالحرب وإنما أيضاً بالأمن الجاري، وبالحملات العسكرية بين الحروب. وبالعلاقات مع حلفاء وغير ذلك من الأمور، فإن معظم هذه المنشورات تعنى بمسألة كيف تحارب إسرائيل، مع تركيز أكبر على عقيدتها الذاتية [subjective] للانتصار في الحرب. والوثائق المذكورة أعلاه تعرض صورة واضحة ومتماسكة نسبياً لاستراتيجيا وعقيدة الجيش الإسرائيلي (على الأقل حتى ظهور مسودة مجلس الأمن القومي واستراتيجيا 2015، اللتين يلاحظ فيهما تغيير في التوجه).
لكن بالنسبة للحملات العسكرية الست الكبيرة الأخيرة التي شنّها الجيش الإسرائيلي ما وراء الحدود، فقد خاضها بموجب أنماط متكررة، مغايرة للاستراتيجيا والعقيدة الرسميتين. وبالفعل، ثمة قاسم مشترك واسع بين حملات "محاسبة " (1993)، و"عناقيد الغضب" (1996)، وحرب لبنان الثانية (2006)، و"الرصاص المصبوب" (2008 -2009)، و"عامود سحاب" (2012)، و"الجرف الصامد" (2014).
وسيشار إلى هذه الحملات الست مجتمعة في هذا المقال بتعبير "حملات يحكمها منطق المحاسبة". وهذا المنطق يهدف إلى صياغة قواعد اللعبة لسلوك الأطراف في الأوقات الاعتيادية التي تعقب المواجهة التي خيضت بوساطة ضربة عسكرية أو استنزاف بالقوة النارية، وبممارسة ضغط غير مباشر، وكل ذلك من خلال تخصيص موارد محدودة والحد من المخاطر. 
ولو كان الأمر يتعلق بحالة مفردة لأمكن القول إن الأمر يتعلق بتقدير موضعي أو أنه انحراف عن العقيدة يستدعي تفحصه (مثلما حدث بالفعل في 2006).
ولكن، بما أن إسرائيل والجيش الإسرائيلي تقيدا بأنماط سلوك نموذجي خلال ست حملات عسكرية على مر عقدين ونصف العقد من الزمن، يبدو أن الأمر لا يتعلق بخطأ وإنما بتطبيق عقيدة حرب ثانية جليّة (لا سيما وأن الجميع يعلم ماذا حدث في حملات "منطق المحاسبة" الست)، لكن هذه العقيدة لم تُصغ بشكل رسمي ما ولّد توترات متكررة بحكم تعارضها مع الوثائق الرسمية والتوقعات السائدة بشأنها في أوساط الجيش الإسرائيلي والجمهور.
وبطبيعة الحال، لا بد من توضيح أن العقيدة الكلاسيكية صيغت أولاً وقبل كل شيء لمواجهة غزو خصوم دولتيين [جيوش نظامية]، بينما شنّت حملات منطق المحاسبة الست ضد خصوم غير دولتيين ضعفاء نسبياً، عملوا وفق منطق إلحاق أذى عام بدولة إسرائيل بوساطة إطلاق قذائف وصواريخ منحنية المسار من عمق أراضيهم، وليس بهدف تحقيق انتصار حاسم ضد الجيش الإسرائيلي أو احتلال أراض.
وعلاوة على ذلك، يمكن الادعاء أنه في جبهة لبنان لا يوجد مكسب سياسي- استراتيجي مهم بمستطاع إسرائيل تحقيقه بشكل واقعي، ولذا غايتها السياسية - الاستراتيجية في لبنان كانت "سلبية" في جوهرها: تقليص الحاجة إلى الانشغال بهذه الجبهة إلى الحد الأدنى. ويمكن الادعاء أنه في جبهة قطاع غزة كانت غاية إسرائيل الحفاظ على الوضع السياسي - الاستراتيجي القائم، وليس إحداث تغيير فيه.
وإذن، بالإضافة إلى محاولتنا في هذا المقال أن نربط بين عمليات إسرائيل العسكرية توصلاً إلى عقيدة متماسكة، ينبغي تحديد القرارات التي اتخذت في كل حالة على حدة، آخذين بعين الاعتبار ظروفها وسياقاتها الفريدة.
ولا بد أيضاً من توضيح أن ادعاء الخروج عن العقيدة الإسرائيلية الكلاسيكية مبني على وقائع ونابع من محاولة تعقب أنماط سلوك متكرر ومميز وليس بالضرورة من قبيل النقد.
وأساساً، إن قرار شن هجوم بري واسع (لم ينفذ في أية حملة من حملات "منطق المحاسبة") يجب أن يكون نابعاً من تقييم أن هجوما كهذا سيسهم بشكل ملحوظ في تحقيق النتائج المرجوة في ظروف وسياق كل مواجهة محددة، وليس من التزام تلقائي بعقيدة قتالية. 
في كل واحدة من الحملات العسكرية الست الكبيرة التي خاضتها إسرائيل ضد لبنان وغزة في [العقد الأخير]، والتي "حكمها منطق المحاسبة"، لم يسع الجيش الإسرائيلي لتحقيق انتصار حاسم ضد الخصم، وإنما لتوجيه ضربة قوية للعدو أو استنزافه وتفعيل رافعات ضغط غير مباشرة، ومن خلال ذلك تحريك آليات دبلوماسية تسمح بإنهاء الحرب وإنجاز أهدافها. وفي الحقيقة لم يعمل الجيش الإسرائيلي وفق فكرة معركة يحكمها منطق حرمان الخصم من القدرة على القتال، أو حرمانه من القدرة على مواصلة نشاطه الرامي إلى إلحاق الأذى بدولة إسرائيل، بما في ذلك في الحالات التي طلبت فيها الأوامر الرسمية "استئصال التهديد" وما شابه. وكذلك، عندما حُددت في الظاهر أهداف بعيدة المدى مثل: "تحطيم حزب الله كتنظيم مسلح"، و"فرض سيادة حكومة لبنان على الجنوب"، لم يسعَ الجيش الإسرائيلي لتنفيذ فكرة حملة من شأنها تحقيق هذه الأهداف، ولذا، ثمة شك في ما يمكن اعتباره أهدافاً حقيقية. وعلى نحو مشابه، لم تفض ثلاث حملات عسكرية في قطاع غزة في غضون ستة أعوام إلى استئصال التهديد ذاته الذي عاود الظهور مجدداً.
كانت أوامر الجيش الإسرائيلي الرسمية تلحظ حقاً ضرورة إدارة حملات قصيرة الأمد، لكن لم يعمل الجيش الإسرائيلي على تطبيق فكرة معركة كفيلة بجعل الحملات قصيرة، ولذا يجوز التساؤل إذا ما كان الجيش الإسرائيلي قد سعى حقاً لتقصير أمد الحملات المذكورة. وهذا الكلام ينطبق بصفة خاصة على حرب لبنان الثانية (التي لم يُدرك بُعدها الزمني بشكل جيد، ولم يدرك صناع القرار تأثير إطالة أمدها على الجبهة الداخلية المدنية)، وينطبق ذلك أكثر على "عملية الجرف الصامد"، حيث يمكن ادعاء أن إطالة أمد الحملة واستنزاف حركة "حماس" بمرور الوقت كان جزءاً من الفكرة "الحقيقية" لحملة إسرائيل. وعلاوة على ذلك، في كل من حرب لبنان الثانية، وحملة "الرصاص المصبوب"، وحملة "الجرف الصامد"، كانت هناك مراحل تريث ليست بالقصيرة بين استنفاد الضربة النارية [الضربة الجوية] (ضرب الأهداف المدرجة مسبقاً ضمن بنك الأهداف قبل بدء الحملة) وبين بداية العمليات البرية. والمناورات البرية الهجومية التي أعقبتها كانت محدودة النطاق، ونفذت وفق منطق توغلات صغيرة نسبياً وعمليات خاصة، وضغط عام (على مشارف مدينة غزة في عملية "الرصاص المصبوب")، أو كانت لضرورة محددة مثل تحييد خطر الأنفاق الهجومية في حملة "الجرف الصامد".
ولم تنفذ مناورات برية هجومية وفق منطق أوسع أو أكثر طموحاً، ولم تنفذ أية عملية برية جريئة واسعة.
الفكرة المركزية "الحقيقية" للجيش الإسرائيلي كانت تقضي بأن يلحق الجيش بالخصم ضرراً أكبر (كمّاً ونوعاً) من الضرر الذي يلحقه الخصم بإسرائيل في الفترة الزمنية نفسها، توصلا إلى إقناع الخصم بعدم جدوى مواصلة القتال، وإقناعه، على الأقل، بقبول جزء من شروط إسرائيل في الترتيبات التي تعقب القتال، فضلاً عن تأسيس ردع كفيل بإبعاد موعد جولة القتال القادمة. وفي جزء من الحملات بُذلت أيضاً جهود أنتجت عَرَضاً رافعات ضغط غير مباشرة، مثل: إخلاء سكان العدو من مناطق مهددة، إغلاق بحري وجوي، ضرب بنى تحتية ثنائية الاستخدام يمكن استخدامها لأغراض عسكرية ومدنية، وما إلى ذلك. و"تقبّل" الجيش الإسرائيلي ضمنياً الضرر اللاحق بإسرائيل في مقابل إلحاق الأذى بالخصم (باستثناء ركيزة الدفاع [منظومات مضادة للصواريخ] في حملة "الجرف الصامد" التي حرمت حركة "حماس" من جزء كبير من قدراتها الهجومية). وبتعبير آخر، الفكرة المركزية الحقيقية كانت تقضي بإدارة "حملة عسكرية متوازية": تمكين الخصم من تحقيق مخططه العملاني للمواجهة، وفي الوقت نفسه تنفيذ خطة مواجهة تلحق به أذى أكبر بكثير.
عموماً يمكن القول إن الحملات العسكرية التي يحكمها "منطق المحاسبة" شملت أربع مراحل: الأولى، مرحلة ضربة نارية [ضربة جوية مكثفة] ضد بنك الأهداف المدرجة قبل بدء الحملة؛ الثانية، مرحلة تريث بعد استنفاد الأهداف المدرجة مسبقاً، وقبل صدور قرار بشأن مناورة برية هجومية؛ الثالثة، مرحلة العمليات البرية (بشكل عام محدودة النطاق)؛ والرابعة، مرحلة إبقاء الضغط حتى ينضج الطرفان بشكل كاف لوقف إطلاق النار.
لماذا اختارت إسرائيل أن تعمل ست مرات وفق هذا النمط؟ من الصعب تقديم إجابة مدعمة بأدلة، لكن قد تكون الإجابة، بكل بساطة، لأنه كان بمستطاعها القيام بذلك. وتعكس الحملات التي يحكمها منطق المحاسبة تفضيلاً لإدارة الموارد والمخاطر بدلاً من أخذ مجازفات واحتمال دفع أثمان باهظة.
إن المقاربة المعاصرة للمخاطر والأثمان يمكن فهمها من خلال [المقارنة التاريخية التالية]: اعتبرت عملية "موكيد" – ضرب المطارات [المصرية والأردنية والسورية] في بداية حرب الأيام الستة - نجاحاً باهراً للقوة المهاجمة [سلاح الجو الإسرائيلي] على الرغم من إصابة نحو 10% منها، بينما الحملة الجوية التي ختمت حرب لبنان الثانية اعتبرت أقل نجاحاً، وتوقفت عملياً عقب سقوط مروحية [نقل عسكرية] واحدة من طراز "يسعور" (CH-53).
وهناك  أيضاً اعتبارات إضافية قد تفسر لماذا آثرت إسرائيل اتباع النهج المذكور، ومن بينها تغيّر روح الشعب ومزاجه القومي من مجتمع معبأ إلى مجتمع وفرة، فضلاً عن اعتبارات دبلوماسية إقليمية ودولية.
لكن قد يمكن تعليل الأمور فيما يتعلق بهذه النقطة هكذا: ربما سمحت إسرائيل لنفسها بتطوير حساسية أكبر حيال تكبد خسائر بشرية، وبإعطاء وزن أكبر للاعتبارات الدبلوماسية لأنها تواجه تهديدات منخفضة نسبياً، ولو كانت تواجه تهديداً للوجود لما استطاعت أن تسمح لنفسها بذلك.
كما يمكن ادعاء أن إسرائيل اختارت النهج المذكور نتيجة تطور تكنولوجي أثمر زيادة في المكسب الممكن تحقيقه من خلال قوة نيران موجّهة عن بعد آمن [standoff firepower]. ومع ذلك، قد يكون هذا الادعاء مستخلص من النقطة المذكورة إياها، أي أن إسرائيل تستطيع إنجاز ما هو أكثر بقوة النيران بحكم أنها تواجه أعداء أضعف. وربما لم تكن إسرائيل سمحت لنفسها باتباع نهج ضربة/ استنزاف بقوة نارية، لو أنها كانت تواجه خصماً ذا قدرات عالية، قادراً على الدفاع عن مجاله الجوي بهذا القدر أو ذاك من النجاح، وقادراً على تشويش الرصد الاستخباراتي الإسرائيلي أو قدرة سلاح الجو على الاستمرار في القيام بعمله، أو قادراً على تشكيل تهديد مضاد أكثر خطورة لا تستطيع إسرائيل السماح لنفسها الاكتفاء باحتوائه.
إذاً، يعكس "منطق حملات المحاسبة" تفضيلاً لاتخاذ قرارات مهمة في مرحلة متأخرة نسبياً، انطلاقاً من عدم الرغبة في الالتزام بخط سلوك معيّن (أكثر تكلفة وخطورة) قبل أن يتضح أن الأمر لا مفر منه تقريباً.
وعملياً، يستشف من "منطق المحاسبة" أن صانع القرار الإسرائيلي مقتنع بأن نتيجة عملانية متوسطة منجزة بكلفة ومخاطر متوسطة مفضّلة على إمكانية تحقيق نتيجة عملانية ممتازة منجزة بكلفة ومخاطر مرتفعة (وذلك، كما سبق ذكره، لأنه يعتبره أمراً مسلّماً به أنه لا إمكانية في جبهة لبنان، على ما يبدو، لتحقيق مكسب سياسي – استراتيجي.
وفي جبهة قطاع غزة كان طموح إسرائيل الحفاظ على الوضع القائم - أي أنه كان من المشكوك فيه إمكان تحقيق تغيير سياسي- استراتيجي ممتاز في أي من الحملتين).
هذه التفضيلات ممكنة عندما تواجه إسرائيل خصماً غير دولتي ضعيفاً نسبياً، ولديها قدرة على اختيار نتيجة متوسطة منجزة بثمن متوسط، بينما في الماضي، وتجاه تهديد مصدره تحالف جيوش عربية غازية حجم قواتها يفوق حجم قوات الجيش الإسرائيلي بأضعاف مضاعفة، لم يكن لدى إسرائيل من خيار سوى المجازفة والقيام بعملية استباقية قبل خصومها.
أما في الحملات العسكرية الست التي "يحكمها منطق المحاسبة" فقد كان مستوى التهديد منخفضاً، والسيناريو الأسوأ لم يكن خطيراً للغاية. وهكذا، بينما عاقب الواقع إسرائيل بقسوة على كل خطأ مرتكب في حرب يوم الغفران [1973]، وبينما لا يزال أثر تلك الأخطاء مؤثراً حتى اليوم، فإن عقوبات الأخطاء المرتكبة في حرب لبنان الثانية وحملتي "الرصاص المصبوب" و"الجرف الصامد"، كانت ضئيلة وسرعان ما طواها النسيان، على الأقل جزئياً.
إن ما كان على المحك في الحملات العسكرية الست التي "يحكمها منطق المحاسبة" لم يكن أمراً من العيار الثقيل: عموماً، مفاوضات عنيفة بشأن الحدود الدقيقة لحرية السلوك العنيف للأطراف في "الأوقات الاعتيادية"، أو حادثة خرجت عن السيطرة ("خطأ في التقدير")، ما جعل صانع القرار الإسرائيلي يعتقد، على ما يبدو، عن معرفة أو عدم دراية، بأن الأمر لا يستدعي وسائل وأساليب من العيار الثقيل.
ويعكس "منطق المحاسبة" أيضاً تغييراً في المقاربة لأرض الخصم: لم يعد يُنظر إلى المناورة البرية الهجومية على أنها فرصة ناجحة لإفقاد الخصم توازنه أو الاستيلاء على أرض كورقة مساومة، بل صار التوغل المؤقت في أرض العدو يعتبر عبئاً وليس رصيداً. وهكذا، خوفاً من تكبد خسائر بشرية ومن خسارة تأييد الجمهور في إسرائيل، وصبر المجتمع الدولي- وفي غياب مركز ثقل عملاني مادي للعدو في بقعة جغرافية محددة - امتنع صانع القرار الإسرائيلي عن تنفيذ مناورة برية هجومية واسعة، واكتفى بقوة نارية، بالإضافة إلى توغلات صغيرة نسبياً، وعمليات خاصة وعمليات برية محدودة بأقل قدر من الاحتكاك مع الخصم.