الشاب الذي وفّر لإسرائيل "ترسانة عسكرية" في أصعب الظروف

F160627BK022-e14730500712141
حجم الخط

بالنسبة للكثيرين، بيريس هو اسم مرادف لاتفاق أوسلو الذي تم التوصل إليه في العام 1993، والذي حاز بفضله على جائزة نوبل للسلام، و”مركز السلام” على اسمه، الذي يدعو إلى الحوار وتوفير فرص لإسرائيليين وفلسطينيين. ومع ذلك، قلة قليلة من الأشخاص في إسرائيل ساهموا أكثر منه في قدرات الدولة العسكرية.
بعد «حرب الاستقلال»، ساعد بيريس في بناء سلاح الجو الإسرائيلي وتحويله إلى القوة الماحقة المعروفة ذات الشهرة العالمية، كما هو عليه اليوم، ويُزعم أيضا بأنه منح إسرائيل القدرة على صناعة أسلحة نووية، والتي منحت الدولة، بحسب تقارير، قدرات الضربة الثانية في حال وقوع هجوم.
صمّم شمعون بيريس طابع وقيم وزارة الدفاع. “قاد تعزيز وبناء قوة الجيش الإسرائيلي وقدراته الإستراتيجية”، كما جاء في بيان صادر عن وزارة الدفاع.
وأضافت الوزارة في بيانها: “لقد طور العلاقات الأمنية مع بلدان أخرى في العالم ولعب دورا مركزيا في إنشاء صناعات الدفاع الإسرائيلية”.
بعد فترة قصيرة قضاها في تنظيم “الهاغاناه” والجيش الإسرائيلي الوليد، كان بيريس على رأس وفد من وزارة الدفاع قام بزيارة إلى الولايات المتحدة في العام 1950 وبعد وقت قصير من عودته تم تعيينه نائبا للمدير العام للوزارة في العام 1952.
بعد عام من ذلك أصبح المدير العام للوزارة، وفي هذا المنصب وضع الأساس لتحويل الجيش الإسرائيلي غير الناضج وغير المجهز إلى القوة التكنولوجية التي أصبح عليها الجيش الإسرائيلي.
في بداية الخمسينيات، بدأ بيريس علاقة مع الحكومة الفرنسية التي يُزعم بأنه نتج عنها إنشاء ترسانة إسرائيل النووية وكذلك شراء طائرات مقاتلة وقاذفات قنابل لتحل محل طائرات الجيش الإسرائيلي القديمة من فترة الحرب العالمية الثانية، والتي سيكون لديها أثر فعال في انتصار إسرائيل في حرب «الأيام الستة» في العام 1967.
مع دخوله المنصب في سن الـ 29، كان بيريس أصغر مدير عام لوزارة الدفاع في تاريخ إسرائيل. ولكن سنه الصغيرة وعدم خبرته لم يمنعاه من تأسيس علاقات إسرائيل الدفاعية مع فرنسا بمفرده بشكل أساسي، بحسب غاي زيف، أستاذ مشارك في كلية الخدمة الدولية في الجامعة الأميركية.
وكتب زيف في مقال له في العام 2010 نُشر في مجلة “التاريخ المعاصر”: “ما يجعل من هذه الحالة ساحرة بشكل خاص ليس مجرد أن شخصا واحدا نجح في تحقيق تأثير غير متكافئ بين البلدين، ولكن أيضا أن هذا الشخص لم يكن من أحد كبار صناع القرار”.
خلال أوائل الخمسينيات حاولت وزارة الخارجية ومسؤولون إسرائيليون كبار من دون جدوى إقناع الولايات المتحدة ببيع مدفعية وطائرات وأسلحة ودبابات للدولة اليهودية الوليدة.
بيريس، الذي حاول جاهدا وفشل في شراء أسلحة من الولايات المتحدة في العام 1950، توجه بدلا من ذلك لفرنسا، “الدولة الأكثر ودية”، كما أشار إليها في اجتماع في وزارة الدفاع في العام 1954.
كان على بيريس الشاب إقناع وزيري الدفاع في ذلك الوقت، بينحاس لافون ودافيد بن غوريون، بأن “الاتصال الفرنسي”، وليس الأميركي، هو الطريق الصحيح، بحسب زيف.
وكتب بيريس في كتابه “مقلاع داوود”: “كان من الطبيعي أن يشعر الشعب في فرنسا بعد الحرب، الذي ذاق هو بنفسه مرارة الفظائع النازية، بصلة قرابة مع ضحايا النازية الذين عانوا من خسائر أكبر”.
من خلال علاقة بيريس مع الفرنسيين قامت إسرائيل بشراء كميات كبيرة من الأسلحة، بما في ذلك مدافع ودبابات ومعدات رادار، ولكن أبرز ما قامت بشرائه كان طائرات “داسو ميستير الرابعة” و”داسو أوراغان” المقاتلة في العام 1955، و”داسو سوبر ميستير بي 2″ في العام 1956 و”داسو ميراج الثالثة”، إحدى أكثر الطائرات المقاتلة تطورا في ذلك الوقت، في العام 1962.
تم استخدام جميع هذه الطائرات الحربية في حرب «الأيام الستة» في العام 1967، حيث قضت على قوات سلاح الجو المصرية والسورية والعراقية والأردنية، ما ساعد في تمهيد الطريق لانتصار إسرائيلي غير متوقع. ولكن نجم حرب العام 1957 كانت طائرة “ميراج”، التي تُعرف في إسرائيل باسم “شاحاك”، التي قامت بشن غارات جوية وشاركت في معارك جوية، حيث أسقطت حصة الأسد من طائرات العدو.
ظلت طائرة “ميراج” في الخدمة حتى العام 1986، وتم استخدام تصميمها لصنع طائرتي “نيشر” و”كفير” المقاتلة من قبل “صناعة الفضاء الإسرائيلية”، وظلت الأخيرة منها قيد الاستعمال حتى العام 1996.
ولكن في حين أن هذه الطائرات لعبت دورا مهما للغاية في الانتصار العسكري في العام 1967، فإن علاقة بيريس مع الحكومة الفرنسية غيرت بكل جذري أيضا إستراتيجية إسرائيل الأمنية وموقعها، مع إنشاء مفاعل ديمونا النووي في النقب.

السلاح النووي..
في أواخر العام 1956 التقى ممثلون من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، من ضمنهم بيريس، لثلاثة أيام سرا في فيلا في سيفر الفرنسية، لمناقشة تأميم الرئيس المصري جمال عبد الناصر لقناة السويس.
في الاجتماع، تم اتخاذ قرار بأن تقوم إسرائيل بخلق صراع مع مصر وأن تقوم بريطانيا وفرنسا بإرسال قوات لوقف الحرب ظاهريا، ولكن في الواقع لاحتلال المنطقة وضمان مرور السفن عبر القناة.
الاتفاق السري في حينها أصبح يُعرف باسم “بروتوكول سيفر”.
وتم إطلاق الحملة في 29 تشرين الأول 1956، عندما غزت القوات الإسرائيلية شبه جزيرة سيناء. واستمرت العملية لمدة 9 أيام.
ونجحت القوات الإسرائيلية والبريطانية والفرنسية بداية في السيطرة على المنطقة، ولكن إدانات واسعة للحملة من الولايات المتحدة والرأي العام في بريطانيا وفرنسا أجبرهم على الانسحاب ما حول الخطة السرية إلى إحراج عام لبريطانيا وفرنسا، لكن إسرائيل خرجت من ذلك من دون أضرار نسبيا.
على الرغم من أن ذلك لم يكن جزءا رسميا من “بروتوكول سيفر”، خلال الاجتماع السري الذي تم التخطيط فيه للحرب التي كان مصيرها الفشل، وافق الفرنسيون على مساعدة إسرائيل في تطوير مفاعل نووي، بحسب مقال تم نشره في العام 1997 في مجلة “فورين أفيرز” لآفي شاليم، مؤرخ بريطاني - إسرائيلي.
وكتب بيريس في كتابه “الصراع من أجل السلام” في العام 1995: “هنا وضعت اللمسات الأخيرة مع هذين القائدين” – رئيس الوزرا الفرنسي آنذاك غي موليه ووزير الدفاع أنذاك موريس بورجيه مونوري – “اتفاقا لبناء مفاعل نووي في ديمونا، جنوب إسرائيل”.
هذا المفاعل النووي في ديمونا، إلى جانب تزويد إسرائيل باليورانيوم، ساهما، كما زُعم، في صنع أسلحة إسرائيل النووية.
يوم الأربعاء، في أعقاب وفاة بيريس، أشادت لجنة الطاقة الذرية الإسرائيلية بالرئيس ورئيس الوزراء ووزير الدفاع الأسبق لدوره في إنشائها.
وجاء في بيان للجنة: “ساهم بيريس بشكل أساسي في إنشاء مركز الأبحاث الذرية في النقب وإنشاء سياسات إسرائيل النووية. كان ذلك عنصرا أساسيا في ضمان الصمود القومي لدولة إسرائيل. ميراث بيريس سيقود لجنة الطاقة الذرية الإسرائيلية في أفعالها حتى في المستقبل”، كما جاء في بيان للجنة.
إسرائيل لا تزال ملتزمة بما يُسمى سياسة “الغموض النووي”، حيث لا تؤكد أو تنفي حيازتها لأسلحة نووية.
مع ذلك، في العام 1998 قال بيريس لصحافيين في الأردن إن إسرائيل قامت بـ”بناء خيار نووي، ليس من أجل أن تكون هناك هيروشيما بل أوسلو”.
قدرات إسرائيل النووية المزعومة، على الرغم من أنها مثيرة للجدل، ولكن يُنظر إليها على أنها ضرورية لبقاء الدولة من قبل الكثيرين من المحللين الأمنيين.
الأستاذ في جامعة بوردو، لويس رينيه، كتب في العام 2014 أن “إسرائيل تحتاج أسلحتها النووية. هذا التصريح الجريء ليس مثيرا للجدل ولو بشكل صغير”.  
وأضاف: “إذا تم حرمانها من أسلحتها النووية، سواء كانت لا تزال غامضة أو تم الكشف عنها حديثا، ستخسر إسرائيل بشكل لا يمكن إصلاحه قدراتها المتبقية لردع عدائية الأعداء”.

عملية عنتيبي
في أواخر الخمسينيات ترك بيريس عمله كموظف حكومي ودخل عالم السياسة، وانضم إلى حزب “مباي”، السلف الأساسي لحزب “العمل”.
بعد انتخابات العام 1959 تم تعيين بيريس نائبا لوزير الدفاع، وهو منصب شغله حتى العام 1965.
في العام 1974 عاد إلى الوزارة لقيادتها، في حكومة رئيس الوزاء آنذاك يتسحاق رابين. من هذا المنصب ساعد بيريس في العام 1976 في التخطيط لـ”عملية الصاعقة” الجريئة، أو ما تُعرف بـ”الهجوم على عنتيبي”.
في 27 حزيران 1976 اختطف مسلحون فلسطينيون وألمان طائرة تابعة للخطوط الجوية الفرنسية كانت في رحلة من تل أبيب إلى باريس. بعد بضعة أيام، أطلق المسلحون سراح الرهائن غير اليهود، باستثناء الطيارين وطاقم الطائرة، الذين رفضوا تركها.
في وقت سابق من هذا العام، قال بيريس خلال حدث شارك فيه بعض الناجين من الحادثة: “من اللحظة التي سمعت فيها عن الاختطاف أدركت أن علينا فعل كل ما هو ممكن لتحريركم وإعادتكم إلى الوطن”.
قام بيريس، إلى جانب من وصفهم بـ”فرع الخيال” في الجيش، بوضع الخطة لعملية الإنقاذ على الرغم من عدم توفر المعلومات الاستخبارتية الكافية.
وقال بيريس: “شكك الكثيرون في قدرة الجيش الإسرائيلي على تنفيذ المهمة، خشية أنه لم تكن هناك أية سابقة لعملية كهذه، ولكن كنت أعرف طوال الوقت أن الأمر ممكن”.
لا يمكن معرفة كم كان كان بيريس والحكومة الإسرائيلية على ثقة بنجاح خطة “ترك الأمور للظروف”؛ لكن داليا رابين، التي حضرت الحدث، تذكرت حديث والدها عن العملية الخطيرة بقوله “غدا، إما سأكون ملكا، أو سيتم شنقي في ساحة المدينة”.
في النهاية نجحت العملية طبعا. تم إنقاذ معظم ركاب الطائرة الـ 106 باستثناء ثلاثة منهم، بالإضافة إلى مقتل أحد عناصر قوات الإنقاذ الإسرائيلية، وهو يوني نتنياهو، قائد العملية وشقيق بينيامين نتنياهو.
وقال بيريس عن العملية: “إن عملية عنتيبي هي واحدة من أكثر العمليات المحسوبة وأهمية في تاريخ إسرائيل، وساهمت في رفع هيبة الجيش الإسرائيلي في العالم”.
ترك بيريس منصبه في الوزارة بعد وقت قصير من ذلك، وبقي بعيدا عنه لنحو 20 عاما.
وفي أعقاب اغتيال رابين في العام 1995، أصبح بيريس القائم بأعمال رئيس الوزراء والقائم بأعمال وزير الدفاع.
وبقي في هذا المنصب لسبعة أشهر فقط، لكن خلال هذه الفترة أشرف على عمليه “عناقيد الغضب”، التي شهدت هجوما على منظمة “حزب الله” في جنوب لبنان.
خلال العملية، قام الجيش الإسرائيلي بقصف منشأة للأمم المتحدة في قرية قانا.
جراء القصف قُتل 106 مدني لبناني وأصيب أكثر من 100 آخرين.
في تقرير لها، قالت الأمم المتحدة إنه “من غير المرجح” أنه تم تنفيذ القصف عن طريق الخطأ، وهو ما نفته إسرائيل بشدة.
وقال بيريس خلال اجتماع للحكومة بعد الحادثة: “لم نكن على علم بوجود بضعة مئات من الأشخاص في هذا المخيم. شكل ذلك لنا مفاجأة مريرة”.
بعد مرور شهرين من ذلك ترك بيريس وزارة الدفاع، في حزيران 1996، ولم يعد إليها أبدا.
بعد عقد آخر في الكنيست، تم انتخاب بيريس رئيسا للدولة، وهو منصب بقي فيه من العام 2007 وحتى العام 2014.
خلال ذلك الوقت ومنذ ذلك الحين، أشاد بيريس بالجيش الإسرائيلي وبأجهزة الأمن الإسرائيلية، ولكنه برز كوجه مبادرة السلام الإسرائيلية.
قال الرئيس الأميركي، باراك أوباما، الأربعاء الماضي: “كان شمعون بيريس جنديا لإسرائيل، للدولة اليهودية، للعدل، للسلام، وللإيمان بأن بإمكاننا أن نكون صادقين مع أحسن جانب فينا – حتى نهاية وقتنا على الأرض، وفي الميراث الذي نتركه للآخرين. على نعمة صداقته ومثال قيادته، توداه رباه (شكرا جزيلا)، شمعون”.