الذين رأوا في قرار إجراء الانتخابات المحلية في الثامن من شهر تشرين الثاني الحالي متسرعاً وفي غير محله كان لديهم الحق في هذا الموقف، فالانتخابات في الحالة الفلسطينية ليست مجرد استحقاق ديمقراطي يعقد في الوقت المحدد، بل هي إما أن تكون خطوةً باتجاه إنهاء الانقسام أو تعزيزه وتعقيد الوضع، وللأسف لم يخضع هذا القرار لدراسة كافية على الرغم من أن الفكرة والقرار بإجراء الانتخابات حظيت بدعم وموافقة كل القوى السياسية الفلسطينية التي أعربت عن رغبتها في المشاركة فيها في حينه. وكان الأجدى أن يُبحث موضوع الانتخابات المحلية في إطار موقف وطني لإنهاء الانقسام على أن يكون مربوطاً بانتخابات عامة في وقت لاحق وعلى توحيد قطاعي القضاء والأمن على الأقل ما يشرف منهما على العملية الانتخابية.
الموافقة على إشراف المؤسسات التابعة لحركة «حماس» في غزة على العملية الانتخابية منح «حماس» الشرعية في اتخاذ ما تراه مناسباً لها ويخدم مصالحها. وهي قامت بالفعل بإلغاء قوائم عديدة لحركة «فتح» في قطاع غزة، وإزاء هذا الفعل المخالف للقانون جاء قرار المحكمة العليا بتأجيل الانتخابات بناء على إجراءات «حماس» ولضمان مشاركة القدس في العملية الانتخابية وحتى تتم دراسة المسألة واتخاذ قرار بشأنها. وبعد التأجيل جاء قرار المحكمة العليا مخالفاً للقانون ومخيباً للآمال ويزيد المسائل تعقيداً على تعقيد، حيث قررت استكمال إجراء الانتخابات في الضفة الغربية دون قطاع غزة، وهذا ليس فقط يخالف قانون الانتخابات لعام 2005 الذي ينص على إجرائها متزامنة ودفعة واحدة في كل الأراضي الفلسطينية، بل هو قرار يمس بالوحدة الوطنية ويضر بالهدف المعلن للانتخابات.
والمشكلة التي أضيفت لما هو قائم من مشاكل وتعقيدات هي تحول موضوع الانتخابات إلى قضية جوهرية تشغل بال الرأي العام بسبب وجود فراغ سياسي كبير في الساحة الفلسطينية، وعدم وجود مسائل أكثر حيوية خاصة في ظل الانقسام الذي يتكرس يوماً بعد يوم ليتحول إلى واقعين مختلفين ومنفصلين في الضفة وغزة، وأيضاً بسبب انسداد الأفق أمام العملية السياسية وازدياد هموم المواطنين على مختلف المستويات وبالذات اقتصادياً واجتماعياً. وهكذا رأى الناس في الانتخابات خطوة لتحريك المياه الراكدة في ملف العلاقات الداخلية، ولكن للأسف هذا الحجر الذي ألقي في مياهنا لم يفعل سوى التذكير بمدى صعوبة الواقع واستعصائه على التغيير.
حسناً فعلت لجنة الانتخابات المركزية عندما دعت الحكومة لتأجيل الانتخابات، وحسناً فعلت الحكومة عندما استجابت وقررت التأجيل لمدة أربعة شهور، ولكن يبقى السؤال: ما الذي ينبغي فعله لإجراء انتخابات موحدة تسهم في تحسين الأجواء وتجدد الهيئات المحلية بما يخدم المواطنين، وتعيد الاعتبار للعملية الانتخابية كآلية للاختيار والمحاسبة؟.
حتى الآن لا توجد خارطة طريق لحل الإشكاليات، وكل ما هو قائم مجرد دعوات للحوار والوحدة، وربما ينقضي الوقت المحدد للتأجيل دون إحراز أي تقدم خصوصاً في ظل إصرار «حماس» على استكمال الانتخابات من حيث توقفت، وكأنها بريئة من عملية التخريب وأن المسؤول وحده هو المحكمة العليا التي اتخذت قراراً صادماً ومسيساً ويكرس الانقسام- على حد تعبير الناطق باسم «حماس» سامي أبو زهري. وقد يتم التأجيل مرة أُخرى وتكريس واقع جديد على ضوء قرار الحكومة تعيين مجالس محلية بدل المستقيلة، وهو ما قد يؤدى إلى معاقبة أناس تمردوا على القرارات وترشحوا خارج القوائم الحزبية، ومكافأة آخرين أحسنوا التصرف والتزموا بالتعليمات القيادية.
علينا أن نقر جميعاً بالمعضلة الجوهرية التي تبدو الآن عصية على الحل وهي الانقسام البغيض والمدمر والذي بدون إنهائه لن يصلح حالنا ولن تتقدم أمورنا ومصالحنا على أي مستوى مهما كابرنا وتجاهلنا هذا الواقع المرير. ومحاولة القفز عن هذه المعضلة لن تؤدي إلى نتائج إيجابية حتى لو كانت الرغبات إيجابية، فقد كشفت الانتخابات المحلية التي لم تجر أن التفكير بخَطو بعض الخطوات الصغيرة على الطريق لتجاوز الأزمة ودون الخوض في تفاصيلها ليس كما يتوقع بعض أصحاب النوايا الحسنة، ولا بد من الخوض في عملية إنهاء الانقسام التي لم تبدأ حتى خطوة أولى بالرغم من الاتفاقات العديدة التي أُنجزت لطي هذا الملف وآخرها اتفاق الشاطئ الذي لم نر منه سوى حكومة لا تحكم في غزة ولا قدرة لها على تغيير شيء على أرض الواقع، وهي لم تتكرس كحكومة وفاق وطني كما أريد لها بل حكومة الضفة الغربية، و»حماس» لا تزال تحكم في غزة بدون حكومة، بل هي زادت من قبضتها على القطاع. وكانت المهمة الأبرز من وجهة نظر «حماس» للحكومة توفير ودفع رواتب موظفيها، وهذا لم يحصل وبالتالي لا ترى «حماس» نفسها ملزمة بأي اتفاق لا يلبي مصلحة مباشرة لها تتعلق بتحمل العبء الاقتصادي عن القطاع وجماعة «حماس»، بينما تبقى جبايات الأخيرة قائمة، وتظل «حماس» الطرف الوحيد المستفيد. وفي الواقع ومن أجل الإنصاف ليست «حماس» وحدها المستفيد من الانقسام فهناك مجموعة أصحاب مصالح في الضفة لا رغبة لهم في الوحدة وعودة قطاع غزة لحضن الشرعية، فالوضع القائم مريح وفيه فائدة لهم. وبدون حدوث اختراق في ملف المصالحة لن ينجح شيء على مستوى الضفة والقطاع.