العقيدة الإسرائيلية «السرية» للحرب: الدخول في الحملة العسكرية والخروج منها(2)

20160410214259
حجم الخط

الدخول في الحملة
عموماً، ولدت الحملات العسكرية (الست الكبيرة التي خاضتها إسرائيل ضد لبنان وغزة في العقد الأخير)، والتي "يحكمها منطق المحاسبة" من عدم الرضا عن حدود حرية السلوك العنيف للأطراف في الأوقات الاعتيادية: سواء حدود إطلاق النار "المسموح به" لـ"حزب الله" أو حركة حماس ضد الجيش الإسرائيلي وإسرائيل في الأوقات الاعتيادية، أو حدود الرد "المسموح به" للجيش الإسرائيلي. أحد الأطراف لم يعد يقبل "مواصفات" هذا العنف في الأوقات الاعتيادية، وصعّد وتيرة (الضربات المتبادلة التي هي جزء من الروتين المسموح به) من وتيرة منخفضة إلى وتيرة متوسطة/ مرتفعة بهدف إجراء مفاوضات عنيفة لإعادة تعريف حدود حرية السلوك المسموح به. وتلحظ وثيقة مجلس الأمن القومي ما يلي: "...القرار بشأن مستوى العنف في الأوقات الاعتيادية لا يترتب عليه فقط تغيير بسيط في خصائص السلوك في الأيام الاعتيادية، وإنما (أحياناً يستوجب، ر. ت.) انتقالاً إلى حالة طوارئ". وفي معظم الحالات كانت إسرائيل هي التي تعمد إلى التصعيد، وتبعاً لذلك فإن مسألة الإنذار المبكر في العقيدة الكلاسيكية لم تكن ذات صلة بالموضوع.
اندلعت حرب لبنان الثانية من جراء حادثة على الحدود خرجت عن السيطرة، ولم يدرك الطرفان التبعات التصعيدية لأفعالهما (خطأ في التقدير)، لكنها (الحرب) تحولت عملياً إلى مواجهة لتعيين حدود السلوك العنيف للطرفين في الأوقات الاعتيادية. وقد يكون هناك أيضاً في الدخول في عملية "عامود سحاب" (2012) شيء من الخطأ في التقدير، لأن إسرائيل لم تدرك الانعكاس التصعيدي لاغتيال (القيادي في حركة حماس) أحمد الجعبري.
إن الدخول إلى "عملية الجرف الصامد (2014)" قد يكون الاستثناء الأكثر تعقيداً في حملات منطق المحاسبة الست، حيث أن جذور المواجهة تكمن في القطيعة بين "حماس" وإيران على خلفية الحرب الأهلية السورية والقطيعة بين "حماس" ومصر على خلفية انقلاب السيسي، وفشل جهود المصالحة الفلسطينية الداخلية. وهكذا، من منظور "حماس"، دُفعت الحركة إلى "حرب لا مفر منها" بهدف كسر عزلتها والضائقة الاقتصادية لقطاع غزة. إن حملة "الجرف الصامد" هي الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، فقد اندلعت لأن "حماس" قدرت حينئذ أنه ليس لديها خيار آخر، وليس لأنها اختارت خوض مفاوضات مسلحة حول السلوك في الأوقات الاعتيادية أو جرّاء خطأ في التقدير. كما أن الخروج من حملة "الجرف الصامد" كان معقداً للغاية، لا سيما وأن إسرائيل سعت لإلحاق ضرر كبير بالقدرات العسكرية للحركة، لكن من دون أن تمس بموقعها كصاحب السلطة الفعلية في قطاع غزة، وقد تكون سعت أيضاً للإبقاء عليها كثقل موازن للسلطة الفلسطينية وكـ"بوليصة تأمين" ضد تسوية مفروضة (للنزاع الإسرائيلي - الفلسطيني). وسنتحدث عن فرادة إنهاء حملة "الجرف الصامد" لاحقاً. ومع ذلك، هناك جوانب عديدة في حملة "الجرف الصامد" لامست (بشكل غير حصري) حدود حرية السلوك العنيف للأطراف في الأوقات الاعتيادية اللاحقة. وعلاوة على ذلك، هناك في هذه الحملة العسكرية نوع من الخطأ في التقدير، لأنه إذا كان كل من إسرائيل و"حماس" راغب في استمرار سلطة "حماس"، فالأَولى بإسرائيل أن تتيح لقطاع غزة الحد الأدنى من قابلية البقاء الاقتصادي، ولا ضرورة لمواجهة عسكرية.   

الخروج من الحملة
لم يكن إنهاء المواجهة في أي حملة من حملات منطق المحاسبة وليد النتائج المباشرة لاستخدام القوة العسكرية. فبعد انقضاء زمن كاف، توصل الطرفان إلى الاستنتاج بأنهما استنفذا الخطوات التي هما مستعدان للقيام بها وليس الخطوات التي هي في متناول قدرتهما، وتوصلا إلى أن الزمن لم يعد في صالحهما، فاختارا الخروج من المواجهة. وفي معظم حملات منطق المحاسبة، وافق خصوم إسرائيل على وقف إطلاق النار قبلها، وكانت إسرائيل هي التي أصرت على إطالة أمد القتال (حملة "الجرف الصامد" هي الاستثناء الأبرز). وقد يكون الإصرار على وقت إضافي نابعاً من عدم تماسك منطقي لدى إسرائيل، التي انتظرت لسبب ما تبلور نتيجة وفق نظرية الحسم الكلاسيكية، بينما كانت تدير الحملة وفق نهج ضربة أو استنزاف، وهو نهج غير قادر أساساً على إنتاج نتيجة حاسمة. ولعله كان من شأن تماسك منطقي إسرائيلي أن يفضي إلى وقف فوري لمعظم الحملات العسكرية بعد الضربة النارية (الضربة الجوية) الأولية.
حملات "محاسبة" (1993)، و"عناقيد الغضب" (1996)، و"حرب لبنان الثانية (2006)، و"عامود سحاب" (2012)، انتهت بآلية إنهاء دولية أفضت إلى ترتيبات واضحة (بعضها مكتوب) لقواعد اللعبة العسكرية المسموح بها في الأوقات الاعتيادية التي تعقب كل حملة. وحملة "عامود سحاب" انتهت بالإضافة إلى ذلك بتسوية مواضيع اقتصادية معينة مثل (السماح للصيادين الفلسطينيين) بالصيد (في بحر غزة) و(تمكين المزارعين الفلسطينيين) من استغلال أراض زراعية (في المنطقة العازلة) الواقعة بمحاذاة الشريط الحدودي. وانتهت حملة "الرصاص المصبوب" (2008-2009) بآلية إنهاء دولية، لكن من دون ترتيب واضح للأوقات الاعتيادية اللاحقة. أما حملة "الجرف الصامد" (2014) فكانت استثنائية من حيث أنها انتهت بفعل جهد دبلوماسي سياسي قام به لاعبون إقليميون، مع تدخل محدود للقوى الكبرى والأمم المتحدة، وأفضى إلى توافق بشأن تخفيف معيّن للضائقة الاقتصادية لقطاع غزة.
بيد أن السمة الرئيسية لإنهاء أغلب حملات منطق المحاسبة هو التباين بين الترتيبات الرسمية التي أنهت الحملات وبين الواقع الذي نشأ في إثرها. "عملية محاسبة" (1993) انتهت بـ"تفاهمات محاسبة" دام مفعولها عامين، إلى أن عاود حزب الله إطلاق النار على مستوطنات الشمال. "تفاهمات عناقيد الغضب" (تفاهم نيسان 1996) دامت أعواماً عدة. وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 الذي وضع حداً لحرب لبنان الثانية (2006) تضمن ترتيباً طموحاً، يستند إلى قوة دولية متعددة الجنسيات معززة وتتمتع بصلاحية استخدام القوة، بيد أنه لا يُنفذ في الواقع (على سبيل المثال، نزع سلاح "حزب الله"، منع انتشاره في جنوب لبنان، حظر تزويد "حزب الله" بالسلاح، وحظر طلعات جوية إسرائيلية فوق سماء لبنان)، وقد بقي حبراً على ورق. وأيضاً قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1860 الذي صدر خلال حملة "الرصاص المصبوب" (دعا إلى وقف إطلاق النار) لم يكن له تأثير في الواقع. كما أن الترتيب الذي أعقب حملة "عامود سحاب" استمر لفترة قصيرة، وجزء منه لم ينفذ أبداً. وأيضاً بنود في الترتيب الذي أعقب حملة "الجرف الصامد" كانت لأغراض دعائية، وكان واضحاً من البداية لجميع الأطراف أن هذه البنود لن تنفذ (مرفأ في قطاع غزة، تحرير الأسرى، جعل قطاع غزة منطقة منزوعة السلاح، وغير ذلك).
إذاً، ما شكّل روتين الأوقات الاعتيادية التي أعقبت الحملات العسكرية لم يكن الترتيبات الرسمية، وإنما تأثير كل حملة وحملة والتأثير المتراكم لمجمل الحملات على إسرائيل من جهة، وعلى حركة "حماس" و/أو "حزب الله" من جهة ثانية. فحملات منطق المحاسبة الست أوضحت لجميع الأطراف معادلة الثمن مقابل المكسب في مواجهات من هذا النوع. وأثمان المواجهات هي التي حددت بالكيّ بالنار قواعد اللعبة وحدود حرية السلوك العنيف في فترات "الأوقات الاعتيادية". ولمّا كانت الحملات نابعة من خيار الأطراف أو من خطأ في التقدير (ما عدا حملة "الجرف الصامد"، وذلك من منظور حركة "حماس")، ولمّا كانت الأطراف لم تعمل عموماً للدفاع عن مصالح وجودية أو حيوية وإنما عن مصالح من الدرجة الثانية، فإن اتضاح اقتصاديات المواجهة (كلفتها وفق معايير متعددة) قد يكون هو الذي شكّل العامل الرئيسي المكوّن للواقع المولود من رحم هذه المواجهات.
الطرفان مردوعان إلى حدّ ما عن خوض مواجهات من هذا النوع. والردع يتوقف على ما قد يستجدّ، وقد يكون كافياً في سياق مصالح من الدرجة الثانية ولكنه قد لا يكون كافياً بالضرورة لأوضاع تكون فيها مصالح من الدرجة الأولى على كفة الميزان. وعلاوة على ذلك، حقيقة أن مواجهات كهذه عادت وتكررت ست مرات، تبيّن أن الردع الناتج عنها محدود حتى في سياق مصالح من الدرجة الثانية.
لقد أدرك كل من حركة حماس و"حزب الله" حدود قوتهما في مواجهة إسرائيل (وفق قدراتهما في هذا الوقت أو ذاك)، بينما أدركت إسرائيل مقيدات قوتها في أوضاع تعمل فيها بقوة متوسطة، ومن دون استعداد لدفع أثمان باهظة.

 استراتيجيا 2015
وثيقة "استراتيجيا الجيش الإسرائيلي" للعام 2015 تقطع شوطاً طويلاً في اتجاه ملاءمة العقيدة مع الممارسة المتّبعة منذ عقدين ونصف عقد. وهي تعترف صراحة بمسألة اقتصاديات المواجهة، وتميز بين حرب تتطلب حشداً جوهرياً للموارد واستعداداً لتحمل مخاطر، وبين وضع "طوارئ" (أي حملة عسكرية محدودة) يكون فيه حشد الموارد والمخاطر محدوداً. وتبعاً لذلك، تميز استراتيجيا 2015 بين حروب مطلوب منها "تغيير الوضع من أساسه، إلى حد تغيير للميزان الاستراتيجي يتجلى بـ"تحييد اللاعبين"، وبين أوضاع تكتفي فيها القيادة السياسية بـ"الحفاظ على الوضع الاستراتيجي أو تحسينه". والمطلوب في الحملة العسكرية هو فقط تجسيد "عدم جدوى استخدام القوة ضد إسرائيل". كما تميز الاستراتيجيا الجديدة بين مواجهة مع خصم دولتي وبين مواجهة مع خصم غير دولتي.
تقلّص هدف الجيش الإسرائيلي في حملة عسكرية محدودة ضد خصم غير دولتي في استراتيجيا 2015 إلى "استخدام التفوق العسكري من أجل إنجاز أهداف الحملة كما حددتها القيادة السياسية"، وإلى "إلحاق أذى محدود ومحدد بالخصم"، بينما انحصرت فكرة الحسم بالمستوى التكتيكي فقط (حسم عسكري "في كل مواجهة" مع العدو). وتحدد استراتيجيا 2015 أنه في حملة عسكرية محدودة ينبغي "أن نبين للعدو فداحة الضرر الممكن الذي عليه أن يتوقعه... والجدوى المنخفضة لقتاله". وفي سياق تطور لاحق (أساساً في أعقاب حملة "الجرف الصامد")، وجريا على منوال تقرير لجنة مريدور ومسودة مجلس الأمن القومي، تضيف استراتيجيا 2015 إلى ركائز مفهوم الأمن التقليدية الثلاث لإسرائيل ركيزة الدفاع.
ومع ذلك، فيما يتعلق بحملة عسكرية ضد خصم غير دولتي، لا تزال استراتيجيا 2015 أيضاً تتحدث عن "انتصار"، وعن "حرمان العدو من قدراته عن طريق تدمير قواته"، وعن "دفاع فعال ضد حركة حماس"، من خلال "سيطرة عملانية على منطقة واسعة من أجل وضع حد لإطلاق النار منها". وتضيف الوثيقة أن المقاربة الرئيسية في الجيش الإسرائيلي تنطوي على خداع الخصم، على الرغم من أنه يسعنا القول إنه في ست حملات "يحكمها منطق المحاسبة" لم تنفذ أي خدعة (تتعدى عمليات موضعية أو قامت بها مستويات قيادية منخفضة). وتحدد الوثيقة أنه حتى في حملة عسكرية محدودة في مواجهة خصم غير دولتي ينبغي تنفيذ "مناورة برية فورية"، على الرغم من أنه في الحملات التي "حكمها منطق المحاسبة" نفذت مناورة برية في وقت متأخر، لأن صناع القرار أرادوا تأجيل المناورة البرية (المكلفة والأكثر خطورة) بقدر الممكن عملياً، أو نفذت مناورة محدودة لم تسهم بشكل ملحوظ في تحقيق أهداف الحملة العسكرية، أو لم تنفذ مناورة على الإطلاق.
لعل استراتيجا 2015 تعطي وزنا أكبر للمواجهة المحدودة مع خصم غير دولتي، وتبعا لذلك تعطي وزنا أقل لمواجهة مع خصم لديه قدرات وفيرة. إنما ينبغي خلق توازن بين الجهوزية للسيناريو المرجح (المتكرر) وبين الجهوزية لسيناريو ينطوي على مخاطر، ولعل استراتيجيا 2015 تميل أكثر من اللزوم للسيناريو المتكرر. وحتى لو كان من الصعب في هذه اللحظة تصور مواجهة قريبة مع خصم دولتي لديه قدرات وفيرة، ينبغي أن يكون السيناريو الثاني هو المنارة التي على ضوئها تُبنى قوة الجيش الإسرائيلي.
 نظرة مستقبلية إلى المواجهات
ربما يمكن فهم لماذا اختارت إسرائيل أن تعمل وفق أنماط تعكس إعطاء الأفضلية لترشيد التكاليف وتقليل المخاطر، أي أنها اختارت تحقيق نتيجة عملانية متوسطة بتكلفة متوسطة، مثلما اختارت عملياً إرجاء اتخاذ قرارات مهمة بقدر الإمكان في أوضاع واجهت فيها خصوماً غير "دولتيين" ضعفاء تنحصر قدراتهم في إطار التسبب بضرر (وبالتالي لا يشكلون، على سبيل المثال، تهديداً متمثلاً بضربة كبيرة للجيش الإسرائيلي أو باحتلال أراض)، وعندما تكون المصالح المدافَع عنها من الدرجة الثانية. ويمكن فهم ذلك في سياقات تستطيع فيها دولة إسرائيل أن تسمح لنفسها بامتصاص الضرر الذي يسببه الخصم، مع علمها أنه في المقابل يتلقى ضربة أشد بكثير، وذلك من دون إزالة التهديد ومن دون ضرب قدرات الخصم القتالية بشكل مؤثر.
لكن من الخطير أن تنسحب هذه التفضيلات على ما هو أبعد من السياقات المذكورة أعلاه. أولا، يمكن التساؤل ما إذا كانت أنماط السلوك المذكورة ملائمة لأوضاع تكون فيها إسرائيل في مواجهة خصوم أقوياء، يستطيعون إيذاء إسرائيل بعمل أشد وقعاً، أو في مستطاعهم العمل بفعالية ضد الجيش الإسرائيلي. بل أكثر من ذلك، إن خصماً غير دولتي مثل "حزب الله" يكتسب قدرات جديدة يمكنها المساس بشدة بعمل المؤسسات العسكرية، والمدنية، والاقتصادية لإسرائيل أمر يستدعي إعادة تقييم جدوى العمل وفق "منطق المحاسبة" في المواجهة المقبلة مع "حزب الله". وعلى ضوء التغيير النوعي في قدرة "حزب الله" على إلحاق الأذى بإسرائيل، ينبغي إعادة تفحص منطق إدارة حملة عسكرية يقوم فيها كل طرف بتنفيذ خطته العملانية بالتوازي، وتقريباً "من دون تشويش" من الطرف الآخر، على مدى أيام وأسابيع عدة، وفقط بعد انقشاع الغبار يجري قياس أي طرف تسبب للطرف الثاني بالضرر الأكبر. كما ينبغي إعادة النظر في قابلية تطبيق ركيزة الدفاع في مواجهة تشكيلة القوة النارية المتطورة والمشبعة لـ"حزب الله". وقد يكون من الخطأ في المواجهة المقبلة مع "حزب الله" التمهل وتأجيل أخذ قرارات صعبة، وقد يكون من الضروري التبكير في اتخاذ القرار، والالتزام في مرحلة مبكرة بأنماط سلوك سريعة وجريئة تنطوي على مخاطر محتملة وأثمان كبيرة.
وفي كافة الأحوال، ينبغي على الجيش الإسرائيلي أن يحافظ على الأقل على كفاءة خوض حرب على طريقة "المدرسة القديمة". إنما بعد أن تعلمت أجيال من القادة النظر إلى القتال على أنه ليس أكثر من عملية "تقنية" تتمثل في إزالة الأهداف المدرجة مسبقاً في بنك الأهداف، ليس واضحاً إلى أي حد تفهم القيادات العليا الحرب بكل مستوياتها الأكثر تعقيداً من مجرد إعداد قائمة إحداثيات من 14 رقماً. وليس واضحاً ما إذا كان لا يزال يوجد في ثقافة الجيش الإسرائيلي الحالية، المادة الجينية الضرورية لعمليات جريئة (على مستوى أعلى من المستوى التكتيكي أو مستوى العملية الخاصة)، أم أن المادة الجينية لإدارة المخاطر (استناداً إلى منطق التقليل من الخسائر والمخاطر) قد أصبحت مهيمنة على مستويات القيادة العليا. وليس واضحاً ما إذا كان هناك اليوم قائد مؤهل لقيادة قوات كبيرة في مناورة برية هجومية مفاجئة، جريئة وسريعة، ومؤهل لإدارة معركة ديناميكية غير مخطط لها مسبقاً، ولقطع مسافة عشرات الكيلومترات في اليوم الواحد. وليس واضحاً ما إذا كانت توجد في إطار التواصل بين القيادتين العسكرية والسياسية قدرة على اتخاذ قرارات مبكرة، أو أن الثقافة التنظيمية الحالية تتطلب التريث واتخاذ قرارات متأخرة، وحتى عندئذ اتخاذ قرارات محدودة.
ومن منظور أوسع، يمكن التساؤل عما إذا كانت حقيقة أن إسرائيل اختارت ست مرات متتالية أن تحقق نتيجة متوسطة باستثمار متوسط قد أفضت إلى حد ما إلى تآكل الصورة المتراكمة للقوة الإسرائيلية في نظر خصومها وحلفائها وأطراف ثالثة. وربما لو كانت إسرائيل اتبعت أنماط سلوك مختلفة، لما كانت وصلت إلى وضع يحتم عليها خوض ست حملات عسكرية متشابهة، أو أن تخوض في العقد الأخير حملة عسكرية واحدة "يحكمها منطق المحاسبة" كل ثلاثين شهراً بالمتوسط. وفي بعض الحالات على الأقل، مثل حرب لبنان الثانية، شنت إسرائيل الحملة العسكرية أيضاً بهدف كسر توازن الردع المتبادل، أي من أجل زيادة حرية حركتها، وضمنياً تقليص حرية حركة الخصم. ولكن يمكننا القول، على العموم إن هذا الهدف لم ينجز. ولعل حقيقة أنه أصبح يُنظر إلى إسرائيل على أنها لاعب يخشى المجازفة ويتريث ويواجه صعوبة في اتخاذ قرارات كان لها انعكاسات أيضاً على مسائل إقليمية أكثر أهمية.

خلاصة
يمكن الادعاء بأنه منذ تسعينيات القرن الماضي تطورت في الجيش الإسرائيلي عقيدة عسكرية ثانية غير منظمة (في بدايتها)، وأنها تشكل موجهاً رئيسياً لاستخدام القوة، وتتغلب حتى على منطوق أوامر العمليات الرسمية، وفي ما يلي خصائصها:
1. هذه العقيدة الثانية طبقت في مواجهات ضد خصوم غير "دولتيين" جوهر قدرتهم يكمن في التسبب بضرر عام تستطيع إسرائيل امتصاصه، وليس بمقدورهم تهديد الجيش الإسرائيلي أو الحدود. وقد عمد هؤلاء الخصوم إلى إطلاق قذائف وصواريخ منحنية المسار من عمق أراضيهم، ولم يكن لديهم مركز ثقل عملاني جغرافي (انتشار في أنحاء متفرقة). وإسرائيل لم تسع إلى تغيير الواقع السياسي - الاستراتيجي لعدم قدرتها على ذلك، أو لعدم رغبتها في ذلك. وقد اندلعت المواجهات المذكورة بسبب عدم الموافقة على مواصفات السلوك العنيف "المسموح به" في "الأوقات الاعتيادية" أو بسبب خطأ في التقدير، فكانت بمثابة مفاوضات عنيفة حول شروط السلوك الاعتيادية التي أعقبت المواجهات. وبصورة عامة، كانت إسرائيل هي التي صعدت بكثافة متوسطة/ عالية. والمصالح التي كانت على المحك هي من الدرجة الثانية (ما عدا مصالح حركة حماس في حملة "الجرف الصامد").   
2. فضّلت إسرائيل العمل بناء على حسابات الكلفة والمخاطر. وفضلت نتيجة عملانية متوسطة بتكلفة متوسطة على فرصة تحقيق نتيجة عملانية لامعة بخطر وتكلفة كبيرين. وآثرت اتخاذ قرارات متأخرة، وعلى نطاق ضيق بقدر الممكن عملياً، وعدم الالتزام بالقيام بخطوات مكلفة في مرحلة مبكرة، أو ما لم يكن الأمر حيوياً. 
3. عملت إسرائيل وفق منطق ضربة أو استنزاف. و"تقبلت" سلوك الخصم ضدها (باستثناء الدفاع الناجح الذي تحقق في حملة "الجرف الصامد") ولم تقض على التهديد، ولكن بموازاة ذلك ألحقت بالخصم ضرراً أكبر بكثير، كماً ونوعاً، واستخدمت رافعات غير مباشرة للضغط عليه.
4. اختارت إسرائيل استخدام القوة النارية، وكانت المناورات البرية مُختزلة وقدمت مساهمة محدودة. وجوهر قيمة القوة النارية كان تدمير بنك الأهداف المدرجة سابقا قبل بدء الحملة العسكرية، وهكذا استنفذت إسرائيل معظم الضرر الذي سعت إلى إلحاقه بالخصم في الأيام الأولى. 
5. كانت إسرائيل هي التي أصرت على إطالة أمد المواجهة حتى بعد أن وافق خصومها على إنهائها (ما عدا في حملة "الجرف الصامد")، وبذلك أظهرت عدم تماسك منطقي بين العقيدة وبين التوقعات: انتظرت بشكل خاطئ تبلور نتيجة حاسمة، بينما كانت تعمل وفق نهج ضربة أو استنزاف. وانتهت المواجهات عندما توصل الطرفان إلى نتيجة مفادها أنهما استنفذا الخطوات التي هما مستعدان لتنفيذها، وأن الزمن لا يعمل لصالحهما. وانتهت غالباً في سياق آلية دولية أفضت إلى ترتيب سياق الأوقات الاعتيادية اللاحقة.
6. في معظم الحالات، لم يصمد الترتيب الرسمي للأوقات الاعتيادية أمام امتحان الواقع، وما قولب السياق الحقيقي للأوقات الاعتيادية كان معادلة التكلفة /الفائدة للمواجهة. إن الطرفين مردوعان – بدرجة محدودة وموقتة ورهن السياق اللاحق - عن خوض مواجهات من هذا النوع، ولذا يقبلان بقيود تقيد حرية سلوكهما العنيف في الأوقات الاعتيادية.
إن الاستعدادات لمواجهة عسكرية مع خصم كثير القدرات أو لحرب لبنان ثالثة يمكن أن تجبر إسرائيل على الخروج من منطقة الارتياح الجديدة التي يحكمها "منطق المحاسبة"، وأن ترغمها على العمل في وقت مبكر وعلى اتباع نهج جريء مكلف وينطوي على مخاطر.