الكاتب: د. حسن عبد الله
لا شيء يأتي من فراغ، ولا حاضر بلا ماض ولا نهضة بمعزل عن خصوبة التراث وفي الإطار ذاته لا يمكننا الحديث عن ثقافة فلسطينية معاصرة، وعن إبداع اتسع وصار بحجم الدنيا من خلال ما تُرجمَ بإقصاء هذا التراث وفصله عما تحقق في الحاضر، دون ربط ذلك بجذور الماضي التي ضربت عميقاً في التاريخ، وتحديداً في تربة ٍ جعلها الأعلام الرواد بجهدهم وإصرارهم، تستجيب لزرع أفكارهم ومبادراتهم، ليشيَد الخلف مداميك متينة قوية على أساسات السلف.
كثير من الكتاب والباحثين ينتجون اليوم، في حين لا تتعدى معلوماتهم عن واضعي الأساسات، سوى معلوماتٍ عامة لا تلامس عمق تجارب الرواد، دون ادراك منهم، أن نتاجاتهم لا تسبح في الفضاء، أو أنها ما كان لها أن تأتي بهذا النضج، لولا أنهم عاشوا لحظة ً تاريخية ً ذات اتصال وتلاحم في السياق الوطني والتاريخي والإبداعي الفلسطيني والعربي، الذي حاولت قوى خارجية قطعه أو تعطيله، لكن الغلبة كانت في المحصلة النهائية لانتصار تواصل السياق على محاولات ومؤامرات القطع.
هذه الحقيقة إلى جانب حقائق أخرى سأتناولها لاحقاً، بخاصة وأن الباحث والكاتب جهاد صالح ذو النفس الموسوعي، قد قصد تأكيدها في سبعة أجزاء ٍ قيمة، صدر إثنان منها مؤخراً عن " دائرة الثقافة والإعلام في حكومة الشارقة". فالجهة التي تبنت وأصدرت هذا العمل، تنبهت لأهميته واستراتيجيته، ووفرت له كل المقومات، لكي ترى أجزاؤه النور تباعاً، مبرهنةً بالرغم من سوداوية المرحلة، أن بقع ضوء تطل من مناطق عربية، تبشر بتصميم ٍ واعٍ على العمل التراكمي في سبيل تبديد حلكة المرحلة، بمبادرات تضيء دهاليز الذاكرة العربية المفجوعة بأحداث ٍ مأساوية ٍ تدهم الوعي والفكر والوجدان.
• د.حسن عبدالله - كاتب واعلامي فلسطيني مقيم في رام الله.
لقد ذكرت في أكثر من مقالة وورقة عمل قدمتها لمؤتمرات، أننا في فلسطين نعاني مشكلةً عميقة ً، بسبب غياب التوثيق والتأريخ لمراحل مهمة من تجربتنا، فما كتب عن ثورة "36"، رغم زخمها وعنفوانها، كان محدوداً وهامشياً مقارنة ً مع عظمة التجربة، والأمر ذاته ينطبق على مأساة الـ"48"، حينما اقتلع نصف التعداد الكلي للفلسطينيين في تلك السنة من أرضهم، ليصبح كل إنسان لاجئ قصة مأساوية لا زالت تداعياتها مستمرة، فقضية بهذا الحجم وهذا البعد الدموي، لم توثق وتؤرخ سوى في عدد من الكتب والمراجع والأفلام الوثائقية.
وينسحب التقصير التأريخي على تجربة الانتفاضة الأولى التي جسدت فعلاً شعبياً عاماً إبداعياً، وكذلك تجربة الأسرى التي اكتوى بنارها ما يقارب المليون فلسطيني، منذ العام 67.
إذن لدينا قصور واضح في التوثيق، لتأتي موسوعة الباحث المجتهد جهاد صالح وتقرع جدران الخزان، لا بالصراخ أو طلب الاستغاثة، إنما بالفعل والعمل والإنجاز.
وقد أمسك د.فيصل دراج بالحلقة المركزية في تقديمه لأجزاء الموسوعة، مبرزاً أهمية التوثيق والتأريخ في التجربة الفلسطينية متسائلاً: " ما هو الجمالي في الذاكرة الوطنية؟ وما هو الجمالي في الإرادة الكاتبة التي نحتفي بها ؟".
ويجيب د.دراج عن السؤالين المطروحين بفقرة مكثفة تجمع ما بين الأبعاد الجمالية والتاريخية والفلسفية فيقول:
"تصدر جماليات الذاكرة عن تكامل الأحياء والأموات، الذين يؤلف بينهم صوت جماعي يوحد بين الماضي والحاضر والمستقبل، وذلك أن للأموات قسطاً في صياغة الحاضر...... مثلما أن تحالف الأحياء والأموات يصوغ المستقبل".
تصدى الباحث صالح في الجزئين اللذين صدرا، حديثاً لتوثيق تجارب مجموعة من الأعلام الفلسطينيين الذين ولدوا وتعلموا وعلموا في حقبة الدولة العثمانية وصولاً إلى سنة 1937، وهم:
( يوسف ضياء الخالدي، الشيخ يوسف النبهاني، الشيخ سعيد الكرمي، الشيخ علي الريماوي، المعلم نخلة زريق، القس أسعد منصور، الشيخ خليل الخالدي، نجيب نصار، بندلي الجوزي، سليم قبعين، خليل بيدس، الشيخ محيي الدين الملاح، خليل السكاكيني، عيسى العيسى، عبدالله مخلص، حبيب خوري، الشيخ سليم اليعقوبي، الشيخ عبد القادر المظفر، ابراهيم الدباغ، الشيخ سليمان الفاروقي، أحمد حلمي عبد الباقي، محمد إسعاف النشاشيبي، بولس شحادة، توفيق كنعان، الشيخ عثمان الطباع، عادل جبر، مي زيادة، خليل طوطح، محمد عزة دروزة، وديع البستاني، حمدي الحسيني، اسكندر الخوري، شكري شُعشاع، عارف العارف، كلثوم عودة، جورج انطونيوس، جمال الحسيني).
والقاسم المشترك بين هؤلاء:
1- التعليم:- حيث تعلموا في فلسطين وعلموا فيها، بينما اتيحت لبعضهم فرصة التعلم والتعليم في الخارج.
2- الثقافة العميقة والانفتاح على الثقافات الأخرى، واتقان لغات أجنبية كالتركية و الانجليزية والفرنسية والروسية، ما مكَّن الرواد من التعرف على ثقافات وتجارب عالمية اسهمت في توسيع آفاقهم وتعميق معارفهم.
3- التوجهات التنويرية الاستنهاضية بعد أن ضاق الرواد ذرعاً بالواقع الصعب الذي عاشه الفلسطينيون والعرب في تلك الفترة، فانبروا يطالبون بعض باصلاحات، وعندما تم تبني بعضها الاصلاحات في نهاية الحقبة العثمانية، ولاقى ذلك تأييد الرواد، على اعتبار أن توجهات الاصلاح اتفقت مع مطالبهم، في حين تمسك بعضهم بمطلب اصلاحات أوسع واشمل.
4- بدا تمسك الرواد باللغة العربية في كتاباتهم ودعواتهم واضحاً ومركزياً، بهدف ترسيخ اللغة كإحدى مقومات الهوية.
ونأمل أن تفتح موسوعة جهاد صالح شهية الباحثين والمؤرخين لإنجاز أعمال موسوعية أخرى في مجالات مختلفة في التاريخ الفلسطيني، الذي كان وما زال وسيبقى جزءاً لا يتجزأ من التاريخ العربي والذاكرة العربية، ولعل موسوعة الأسرى، التي أصدر الجزء الأول منها مركز أبو جهاد لشؤون الأسرى في جامعة القدس، تسد ثغرة الفقر التوثيقي التأريخي للتجربة في هذا الميدان، لعلنا نصل إلى يوم نكون فيه قد تمكنا من الإحاطة بالحقول والميادين كافة، لا نبقى شاردة ولا واردة في التجربة الفلسطينية دون أن تخضع للتوثيق.
وأجزم أن ما حققه الباحث سليقى الترحيب والاحتفاء على المستويين الفلسطيني والعربي، فالعمل وإنْ كان فردياً، فقد كانت الطاقة المبذولة فيه بحجم طاقة مؤسسة كاملة متكاملة، وهذا تنبه له الناقد المثقف الفلسطيني البارز د.فيصل دراج، عندما كتب في تقديمه: " تطلع جهاد صالح في عمله الموسوعي إلى أهداف ثلاثة:- كتابة السيرة الفكرية والأدبية الفلسطينية الممتدة من منتصف القرن التاسع عشر حتى اليوم ... وإثارة الهوية التي صاغتها أجيال متلاحقة من الكتاب والأدباء ارتضوا بأقدارهم المختلفة والتزموا بالدفاع عن فلسطين ... والهدف الثالث هو الحفاظ على الذاكرة الوطنية التي تحولها المعرفة إلى طاقة مبدعة مقاتلة..."
جهاد صالح لم يأت ِ من أصول أكاديمية، بالرغم من أنه تعلم كيف يتعامل مع مفاتيح العمل البحثي، وإنما جاء من ساحة العمل الفدائي، وقد تعفرت ملابسه وقلمه بغبار الميدان، كان مرشحاً في كل لحظة على مدى عشرين عاماً من انغراسه في الميدان، لأن يكون من الأموات الذين يصوغون الحاضر، ويتكاملون مع الأحياء في صياغة المستقبل، لولا أنه قدر له أن ينجو من رصاصة أو قذيفة أو انهيار خندق، كان طيلة هذه السنوات مشروع شهيد، بيد أن الباحث ظل يكمن في أعماقه يبحث عن فرصة لأن يرفع رأس قلمه من بين الركام ويكتب، لذلك كان توصيف د.دراج لتجربته بين الميدان والقلم دقيقاً ومعبراً :
"عمل جهاد صالح، الباحث الذي انتجته التجربة الكفاحية لا الاختصاص الاكاديمي، على جمع أطراف الذاكرة الثقافية الفلسطينية متوسلاً الإرادة والمثابرة والمعرفة....".
إن ما انجزه صالح في هذه التجربة، نقله من موقع الباحث الذي تصدى في السابق لإصدار كتب بحثية منها على سبيل المثال لا الحصر ما خص به تجربة أسمى طوبي وتجربة عبد الرحيم محمود، وتجربة خليل بيدس، ونقولا زيادة إلى مؤرخ واسع الإطلاع، يتمتع بدقة وأمانة الراصد المتيقظ وطول نفس باحث لا يعرف الكلل والملل ولا ييئس من ثقل الحمل وتعاقب السنوات وهو منكب على مراجعه ليلاً نهارا، يمحص ويستخلص ويكتشف، وهذه السمات جميعها يتمتع بها المؤرخون الكبار في التاريخ.