يزداد المشهد السوري قتامةً وسوداويةً وسط اشتعال الصراع الدولي بين الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها من جهة، وروسيا وحلفائها من جهة أُخرى، والمساعي الحثيثة لكسر قواعد اللعبة بتغيير موازين القوى في المربع السوري.
لم يكن لافتاً للمحللين والمتابعين للشأن السوري أن تُعلّق واشنطن المحادثات مع موسكو بخصوص الاتفاق الذي عقد بين الطرفين في التاسع من أيلول الماضي، والذي دخل حيّز التنفيذ بعد ثلاثة أيام على الاتفاق، غير أنه مات في أرضه.
واشنطن علّقت التعاون مع موسكو لاعتبارات مفادها أن الأخيرة لم تضغط على النظام السوري من أجل وقف إطلاق النار، متهمةً الطرفين بأنهما لا يريدان للاتفاق النجاح ولا يعنيهما سوى مواصلة القتال وفق الخيار العسكري فقط.
موسكو رفضت الاتهام الأميركي جملةً وتفصيلاً، واعتبرت أن واشنطن هي أساس من عطّل الاتفاق وأنها لا تريد العمل لا في موضوع وقف إطلاق النار، ولا حتى التعاون الاستخباراتي ويشمل ذلك فصل التنظيمات الإرهابية عن المعارضة المعتدلة.
عودة الحرب الكلامية الساخنة بين الطرفين الأميركي والروسي، كانت محط اهتمام الوسائل الإعلامية والإذاعية بعيد فشل الاتفاق، خصوصاً وأننا نقرأ من عدم الوصول إلى رغبة في التعاون الثنائي بأن كل طرف يريد تمرير معادلته الخاصة.
فشل الاتفاق يعكس حجم التناقضات الكبيرة في المشهد السوري، ويعكس إلى حد كبير أن لا أحد يريد للمسار السياسي أن يسير قدماً نحو حل النزاع، خصوصاً وأن فرقاء النزاع السوري يتمسكون كلٌ بموقفه إزاء إمكانيات الحل.
روسيا متمسكة بدعم النظام السوري وتقويته، وبالتالي فرض معادلة سورية بحكومة يقودها الرئيس بشار الأسد، والولايات المتحدة لا تزال تتمسك بضرورة رحيل الأسد عن المشهد السياسي، ربما لأن التمسك بهذا الموقف سيجعلها قادرةً على المناورة الدولية لإضعاف موسكو في الملعب السوري.
بعد تعليق الاتفاق، قالت الإدارة الأميركية إن الخيارات مفتوحة أمامها فيما يتعلق بالملف السوري، يشمل ذلك الذهاب نحو المسار العسكري، غير أن هذا الخيار غير وارد بالمطلق، لأنه سيعني وقوع كارثة كبيرة قد تؤدي إلى اندلاع حرب عالمية ثالثة.
ما تفكر فيه واشنطن الآن، هو تقوية التحالف الدولي في سورية بهدف ضرب التنظيمات المتطرفة، وفي ذات الوقت مساعدة المعارضة المعتدلة على المناورة العسكرية من أجل تمكينها في مدينة حلب، ودعمها بالأسلحة التي تحفظ التوازن العسكري على الأقل.
ويبدو أن هناك تفكيرا جديا من قبل واشنطن نحو دعم المعارضة السورية بطريقة تجعلها أقوى من قبل، وأكثر قدرة على منافسة القوات الحكومية السورية في نزاع استنزافي لأطول وقت ممكن، خاصةً وأن واشنطن تعوّل في الحرب الدولية بالوكالة مع روسيا على المعارضة.
وحين تقول الإدارة الأميركية إنه من الصعب أن يتم فصل التنظيمات الإرهابية عن تلك المعتدلة، فلعلها ترخي الحبل في موضوع التعامل مع تنظيم مثل «جبهة النصرة»، لأنها تعتقد أن هذا التنظيم قوي ويشكل حائط صدّ أمام سيطرة القوات الحكومية السورية على حلب.
الملاحظ الآن أن العلاقات الأميركية- الروسية عادت من جديد إلى مربع الصفر بخصوص الأزمة السورية، والحال كذلك يشمل فرقاء النزاع السوري، غير أن ارتفاع اللهجة يشي بأن كل طرف يسعى لاستثمار الوقت بالضغط على المسار العسكري في سورية.
حديثاً أرسلت روسيا أنظمة الصواريخ «اس 300» إلى قاعدتها البحرية في طرطوس، والهدف من هذا الإجراء يتعدى كونه وقائياً، تستهدف عبره القوات الروسية الدفاع عن قاعدتها البحرية حسب تصريح صادر عن وزارة الدفاع.
لقد أرسلت روسيا أنظمة صواريخ «اس 400» الأكثر تطوراً ونصبتها في قاعدتها بحميميم، غير أن إرسال الصواريخ «اس 300» في هذا الوقت بالذات، يعني أن روسيا تريد تعزيز قوتها العسكرية في سورية، ويعني أيضاً أن الرسالة موجهة للغرب بأن يتقي شر توسيع القتال.
بطبيعة الحال من المستبعد جداً الحديث عن حرب كونية تنطلق من سورية، لأن واشنطن وموسكو اتفقتا على عدم خوض حرب مباشرة هناك، لكن من المرجح أن يظل المسرح السوري عنواناً للاستقطاب الدولي والتشاحن الرئيسي بين الولايات المتحدة وروسيا.
النزاع بالنسبة للقوى الدولية الكبرى واشنطن وموسكو، يعني تحقيق مصالح، مثل التأكيد على فرض الهيمنة الدولية وتوسيع دائرة الأحلاف، وتصدير الأسلحة لدول كثيرة، فمثل النزاع السوري يحقق مكاسب استراتيجية للطرفين، كلٌ انطلاقاً من موقعه ومكانته الدولية.
تستطيع واشنطن إن أرادت، إنهاء النزاع على قاعدة «التعادل»، إلا أنها لا ترى مانعاً في بقاء النزاع متواصلاً، سواء بقوة أو بوتيرة السلحفاة، لأنها في كل الأحوال لا تخسر شيئاً، فهي تتحكم بهذا النزاع من بعيد ودون أن تدفع فلساً واحداً.
أما روسيا فتعتبر وجودها في سورية يعني حماية مصالحها في منطقة الشرق الأوسط، خاصةً وأن التواجد في حميميم وطرطوس يعتبر الوحيد في هذه المنطقة، لذلك سوف لن تبخل موسكو بدعم القوات الحكومية السورية من أجل تثبيت قدمها في الشرق الأوسط.
إزاء ما يجري من تعصب دولي وحراك دبلوماسي محموم لإنقاذ اتفاق ميت، أو العمل على توليد اتفاق تسعى لاقتراحه عدد من الدول، من بينها فرنسا وتركيا، لا يزال النزاع يمضي قدماً ويؤكد في ظل غياب الإرادة الدولية وتجمد المسار السياسي، أن الحل العسكري هو العامل الأهم في حسم النزاع.
ومن المرجح أن تنتهي الأزمة السورية ليس في هذا العام بالطبع، ومن غير المعروف متى، لكنها قد تنتهي على شاكلة «حصتي وحصتك»، بمعنى توزيع المغانم بين الطرفين الأميركي والروسي، لأن واشنطن لن تسمح بالخروج من سورية مثل الذي «طلع من المولد بلا حمص».
هذا عن الأطراف الدولية الكبرى، أما عن أطراف النزاع السوري، فلعل النظام سيرضى بصيغة حكومة وحدة وطنية بوجود الأسد، سواء حقق انتصاراً عسكرياً أم ظل على نهج التوازن مع المعارضة، وفي كل الأحوال تشكيل حكومة ائتلافية يقودها الأسد، في ظل التعقيدات والتجاذبات الدولية، سيكون نوعاً من الانتصار بالنسبة للنظام السوري.
أما بالنسبة للمعارضة المعتدلة فإن صمودها مرهون بالدعم الخارجي الذي يُقدم لها، لكنها باتت عاجزة الآن عن تكريس حالة من التفوق العسكري على غريمها، وقد ترضى أخيراً بتشكيل حكومة وحدة وطنية تشمل الرئيس الأسد. ربما هذا هو التصور الأكثر موضوعية لمآلات النزاع السوري.