جون ديوي واحد من أشهر الفلاسفة الأمريكيين، وهو بالتحديد واحد من صناع العقل الأمريكي، وإذا كنا نتحدث دوماً عن الساسة الأمريكيين باعتبارهم برجماتيين، فإن جون ديوي هو الذي صقل هذه العقول واقتادها لتبني مجمل التقدم الأمريكي علي أساس برجماتي. والكتاب المفزع الذي نتأمله الآن كتبه جون ديوي في عام 1939 وعنوانه «الحرية والثقافة» [أصدرته مكتبة الأسرة في 2010 وترجمه أمين مرسي قنديل ترجمة تليق بالكتاب] وابتداء نجد المترجم محاولاً أن يترجم لنا ما اعتدنا ألا نترجمه مثل «الفلسفة البرجماتية» فيسميها الفلسفة الوسيلية ويفضلها علي ترجمات أخري مثل الذرائعية أو الآلية وأحاول أنا أن أتفلسف فأفضل الفلسفة الأدواتية [أي التي تتحول من مجرد آلية لإبداع أفكار يختلف حولها الفلاسفة الآخرون إلي أداة لحل المشكلات العملية التي تصادف الناس في حياتهم اليومية] وهكذا أراد جون ديوي الذي رأي أن الفكر هو آلة لحل مشكلات الناس اليومية، وحتي العلم يراه ديوي ليس مقصودا،ً بذاته فالإنسان يتعلم ليس لاختزان معلومات وإنما يتعين أن تكون المعرفة وسيلة لتحقيق متطلبات الحياة الاجتماعية. والعقل عند ديوي يكاد أن يشبه العقل عند الغزالي الذي يفارق فيه بين العقل الفاعل والعقل المنفعل، فديوي يري أن العقل مجرد عضو مثل اليد والعين، فهو أداة وليس غاية في ذاته. لكن الأمر عند ديوي أكثر تعقيداً فهو يصفع القارئ في أول سطر من كتابته «ما الحرية»؟ ولماذ يهتم بها الناس؟ وتتوالي أسئلة ديوي لتحاصر القارئ، وهل الحرية مطلوبة لذاتها أم لتحقيق أهداف أخري؟ وهل تستحق أن يتحمل البعض تبعات مرهقة إذ ينادون بها؟ وهل الحرية في ذاتها وفي ما تحققه تبدو مهمة مثل وسائل العيش والطعام والسكن؟ ومثل استمتاع الإنسان بمتع الحياة من لهو ومرح؟ وهل صحيح ما يزعمه البعض بأن سعي الإنسان للحصول علي الحرية كان القوة الدافعة لتقدم البشرية؟ أم أن الحرية تحققت لأننا أردنا التخلص من قيود ترهقنا، فإن تخلصنا من هذه القيود انتهت الرغبة في الحصول عليها. وإذا كانت الحرية السياسية تمنحنا الادعاء بأنها لا يمكن الاستغناء عنها فما هي علاقتها بالتفاعلات خارج الحياة السياسية في مجالات الصناعة والعلم والفن والثقافة والدين وهي جميعاً تؤثر في عاداتنا ومواقفنا والبيئة القانونية التي تعيش في إطارها، ثم يزيد ديوي من إصراره علي إرباكنا المقصود إذ يؤكد أن تداخل كل هذه العوامل التي نعيش فيها مع بعضنا البعض تتلخص جميعاً في لفظة ثقافة. فالثقافة هي ثمرة موازية للحرية السياسية هي نتيجة وأيضاً مثيلة لها وبذلك تصبح الثقافة غلافاً يضم في أحشائه العلم والمعرفة والفنون والتكنولوجيا والصداقة والحب والأسرة وهي ثمرة وأيضاً فاعل في ذلك كله .. وكلما تغيرت الثقافة أي كلما ازدادت تعقيداً ازداد معها تعقيد الحياة الاجتماعية في أمريكا.. ثم يأتي جون ديوي بعد أن يرهبنا بأسئلته التي يحاول بها ومن خلالها إشعارنا بالضعف وقلة الحيلة ليكشف كل أوراقه. هو باختصار شديد يريد أن يقنعنا بأن الحرية هي آلية لتحقيق إرادة نريدها وبعدها تنتفي الحاجة إليها . فليس صحيحاً عند ديوي أن محبة الحرية صفة أصيلة في الإنسان ولا صحيح أنها معيار للتقدم ولا حتي ضرورية لتحققه. ثم يضعنا ديوي أمام الحقيقة الأمريكية التي نشعر بنتائجها الكارثية علينا دون أن نتعمق في فهم بواعثها. فيسأل هل يمكن أن يكون لعامل واحد السيادة في تحريك المجتمع وتكون العوامل الأخري ثانوية؟ ويجيب صراحة «الاتجاه في وقتنا الحاضر هو الاعتقاد بأن الأحوال الاقتصادية هي القوة الفعالة التي تتحكم آخر الأمر في علاقات الناس ببعضهم البعض» [صـ21] وحتي فكرة الأخلاقيات التي ظلت هي والعادات شيئاً واحداً التي اعتبرت معياراً للرصانة والاحترام تتبدل ليتوالد بديلاً عنها عادات وتقاليد جديدة يتقبلها الناس «فيوجد نسق أخلاقي جديد» [صـ23] ويمضي جون ديوي ليرسم أسس المجتمع الأمريكي ويكشف كل أوراقه ويقول «إن المدرسة الاقتصادية الكلاسيكية تعتبر المصلحة الشخصية هي القوة الأساسية الدافعة إلي كل سلوك يصدر من بني الإنسان» ثم يقول «إن محبة القوة هي الفكرة النظرية المرشحة كي تكون الفكرة المسيطرة علي توجيه النشاط الإنساني. فالنجاح في السعي وراء الأرباح والمكاسب الاقتصادية هو بالأساس امتلاك لقوة كبيرة متفوقة، وهذا النجاح يتوالد منه المزيد من هذه القوة وهو الأمر الذي يدفعنا إلي أن نستنتج بالضرورة أنه لا يوجد أي نوع من السياسة غير سياسة القوة» ويقول صراحة «إن كان البعض في الماضي يتسترون علي ذلك بلباقة وعبارات محتشمة، فإننا الآن نقرر ذلك لأنها أصبحت الأمر الواقع» بل إن ديوي يبرر سياسة القوة هذه بمبدأ البقاء للأصلح الذي قامت علي أساسه الداروينية. ثم هو يعود ليبرر نزعة أمريكية أخري فيقول إن الطبيعة البشرية ككل أشكال الحياة تنزع إلي التمايز «والتمايز يتجه إلي ما هو فردي، فالالتجاء إلي الاحتماء بالجماعة كان ينجم عن الخوف مما يهدد الحياة. ثم هو يتأمل في شماتة ما أسماه التدهور الذي أصاب «الحرية والمساواة» ووضع الكلمتين في تناقض مع ما هو الأساس عنده وهو «الفردية».
وهكذا فإننا وعبر منظومة فكر ديوي المتوحشة نصبح قادرين علي فهم السياسات الامريكية تجاهنا.. ونعرف ـ ربما ـ كيف نواجهها.
عن الاهرام
ساترفيلد وفضح حقيقة "الفاشية السياسية الأمريكية" في حرب غزة!
14 نوفمبر 2023