كانت إسرائيل ولا تزال ترى في وجود قطاع غزة ومقاومة أهله مشكلة يصعب التعامل معها. وفي البداية حاولت ضم القطاع وتدجين سكانه بترحيل قسم منهم إلى خارج فلسطين أو إلى مناطق أخرى في أرضها فلم تفلح. وحاولت مرارا قمع مقاومته بأشكالها المختلفة الفدائية والشعبية ولم تنجح. واضطرت إلى قبول فكرة الانسحاب من طرف واحد منه والأهم اللجوء إلى أسلوب تفكيك مستوطنات لأول مرة. ومع ذلك بقيت المشكلة لإسرائيل كبيرة في القطاع.
ورغم تبدل الأوضاع في القطاع، خصوصاً بعد اتفاقيات أوسلو، إلا أن المشكلة بقيت على حالها. فالقطاع، تحت حكم حماس أو فتح، أو حتى إسرائيل قبل ذلك، ظل المشكلة التي لا تجد لها حلاً. ومن المنطقي الافتراض أن هذه المشكلة ظلّت بلا حل لأن كل المساعي لم تتجه نحو حل السبب الأساس لمشكلة غزة وهو أنها خزان الثورة لاعتبارات كثيرة بينها أنها خزان اللجوء الأكبر على ما تبقى من الأرض الفلسطينية. ويمنع الوضع المعقّد في القطاع تقبّل أهله كل محاولات التدجين وفرض الوقائع. وهكذا غدا أهل القطاع، ربما بين الأشد قدرة في العالم على احتمال المصاعب. ويرى كثيرون أن قدرة القطاع على البقاء رغم كل عوامل التقييد والحصار والإغلاق تشكل حالة تستدعي الدراسة. ففي القطاع واحدة من أعلى نسب الاكتظاظ في العالم ومن أعلى نسب البطالة رغم ارتفاع مستوى التعليم. وربما أن هذا أكثر من سواه ما يجعل خيار المقاومة والصمود شعبياً رغم ظهور عوامل التذمر بين وقت وآخر.
وأيا يكن الحال، من الواضح أن مشكلة القطاع تتفاقم في نظر إسرائيل كلما كانت القيادة الإسرائيلية عاجزة عن التقدم في أي اتجاه معه، كما حالها اليوم. ولا أدلّ على ذلك من أن وزير الجيش الحالي، أفيغدور ليبرمان، صاحب نظرية "القامة القومية المنتصبة" لم يكن يتخيل أن يقول أحد عنه أنه يتعامل بـ "قفّازات حريرية" مع حماس. فهو صاحب الأفكار التي لا يتردد عن إعلانها بأنه لا حل سوى استمرار توجيه الضربات للعدو إلى أن يستسلم. وبين هذا وذاك يدعو إلى استخدام كل القدرات العسكرية المتوفرة لإحداث الحسم. وهذا موقف نادى به وهو وزير للخارجية في حكومة نتنياهو التي شنّت الحرب على غزة قبل حوالي عامين، وما زال ينادي به حتى الآن.
وبعد أن تولى ليبرمان وزارة الجيش أوحى لوسائل الإعلام الإسرائيلية أنه بصدد تغيير نظرية القتال الحالية القائمة على فكرة جباية أثمان باهظة من العدو وطالب بالعودة إلى أسلوب انتهاء الحرب بشكل حاسم عبر تحقيق نصر واضح. ويوحي ليبرمان بأنه يعمل حاليا لترسيخ هذا الفهم لدى قيادة الجيش الإسرائيلي. لكن هذا المفهوم الذي ساد في الجيش الإسرائيلي طوال العقود الأولى اصطدم بتغير الظروف وانتقال الصراع الرئيسي من المواجهة مع جيوش نظامية إلى الصدام مع منظمات تمتلك قدرات دول ولكن لا تخوض حروبا نظامية. وتقريبا لم تفلح إسرائيل في تحقيق أي نصر حاسم ونهائي وواضح بعد حرب حزيران. وبدا هذا واضحاً في حرب تشرين عام 1973 وفي حربي لبنان الأولى والثانية وفي الحروب الثلاثة التي شنتها ضد قطاع غزة في العقد الأخير.
ويعتقد معلّقون أن ما يواجهه ليبرمان من مصاعب في اتخاذ القرار بشأن قطاع غزة هو في الواقع ما تواجهه إسرئيل. فالرجل الذي كثيراً ما نادى بالهجوم والمبادرة الميدانية وجد نفسه كمن يحاول الظهور بمظهر "العاقل المتّزن" حيث أعلن مؤخراً أن إسرائيل لا تنوي شنّ عملية في قطاع غزة وأنها تطلب من حماس تعزيز جهودها لمنع الإطلاقات. ويتحدث معلّقون عسكريون كثر عن أن ليبرمان يسير على حبل مشدود يربط بين رغبته في الظهور بشكل مختلف عن أسلافه من ناحية وبين التخوف من تصعيد يدفع الوضع إلى الانفلات. ومن المؤكد أنه يرى حاليا ممثلي المحكمة الجنائية الدولية الذين وصلوا إلى فلسطين المحتلة في أول مهمة تقصّي حقائق.
وفي هذا السياق يذكر المعلق العسكري في "هآرتس" عاموس هارئيل أن ليبرمان لم يغيّر جوهرياً موقفه تجاه ما يحدث في قطاع غزة وهو كرر مؤخراً هذه المواقف أمام مراسلين. ويقول إن ليبرمان يؤمن أن الصدام مع حماس محتوم سواء لأن اعتبارات داخلية في حماس يمكن أن تدفع نحو ذلك في وقت ما أو بسبب جهود يبذلها الجيش الإسرائيلي لمنع الأنفاق. وقد أعلن أن على الجيش الإسرائيلي سحق وإسقاط حكم حماس في أي مواجهة مقبلة. ولكنه كان في الماضي قد أعلن أنه إذا تولى وزارة الجيش فإن رئيس الحكومة الفلسطينية السابق في حماس، اسماعيل هنية، لن يبقى على قيد الحياة لساعات. ومعروف أن تهديد ليبرمان لم يتحقق.
وأيا يكن الحال فإن ليبرمان الذي يحاول حتى الآن الإيحاء بأنه يختلف مع القيادة العسكرية بشأن ما ينبغي فعله مع المقاومة في غزة يجد نفسه في موقع الأقلية. فالجيش الإسرائيلي الذي خبر تجارب الحربين الأخيرتين يعرف حدود ما يمتلك من قوة ويعرف أيضا حجم الضرر السياسي والعسكري الذي يلحق بإسرائيل جراء أي حرب. ولهذا السبب واضح أن إسرائيل لا تميل في الوقت الراهن إلى التصعيد مع حماس سواء كان ذلك لاعتبارات تتعلق بغايات سياسية أو جراء وجود نوع من الردع المتبادل.
عن السفير