يصعب على المرء أن يحسد اليوم محللاً من جهاز استخبارات أجنبي – أميركي، غرب اوروبي او روسي، يتصدى لمهمة تبليغ مدرائه بشكل دائم عن الجلبة التي تعصف في ارجاء الشرق الاوسط. فإذا كان في الماضي ممكناً وصف سلسلة مسائل مهمة في المنطقة (النزاع الاسرائيلي – الفلسطيني، البرنامج النووي الايراني، العلاقات بين الدول العربية المختلفة) والتي توجد فيما بينها علاقات تبادلية محدودة، فالسنوات الاربع الاخيرة تتميز بوجود حرب تجري بلا توقف تقريبا، من العراق في الشرق وحتى ليبيا في الغرب، وتنقسم لعشرات النزاعات الفرعية الدامية. هذا خليط إقليمي يتغير بوتيرة تدير الرأس، نزاع ينتقل الى المواجهة المجاورة ويؤثر عليها، ولمحللي الاستخبارات (ولقادتهم أنفسهم) قدرة في الحد الادنى على توقع الأحداث، فما بالك توجيهها.
تصف شعبة الاستخبارات في الجيش الاسرائيلي أربعة معسكرات اساسية تصارع في سبيل الهيمنة الاقليمية وهي: المحور الشيعي، والذي تقوده ايران مع سورية و»حزب الله»؛ الانظمة السنية المركزية، التي تميل الى الغرب، وتعرّفها اسرائيل لراحتها «معتدلة» (السعودية، مصر، الاردن، معظم إمارات الخليج)، لاعبون مستقلون سُنة يقيمون علاقة مع حركة الاخوان المسلمين (تركيا، قطر، «حماس» في غزة) ومنظمات سُنية – جهادية («القاعدة» و»داعش»، وعشرات الفصائل المحلية التي تبدل على نحو مستمر ولاءها بين التنظيمين الكبيرين). وتستمر المواجهات المحلية بالتوازي وتؤثر كل الوقت الواحدة في الاخرى. فحشد جهود المعسكر المعتدل في اليمن يؤثر الآن في شدة الحرب ضد «داعش» في العراق وفي سورية، بينما تتردد «حماس» بين استئناف التحالف مع ايران والتقرب من الكتلة السعودية – المصرية.
ويتجه معظم الاهتمام الاعلامي في الشهرين الاخيرين نحو اليمن، بسبب توحيد القوى العربية المفاجئ الذي نجحت السعودية في حشدها هناك، في محاولة لصد تقدم الثوار الحوثيين، المدعومين من ايران. ولكن في الحرب في سورية أيضا – المواجهة الاطول والاكثر اجراما – ثمة تطورات في الايام الاخيرة. فمعظم مقاتلي «داعش» وان كانوا غادروا على ما يبدو مخيم اليرموك للاجئين المجاور لدمشق – حيث قتل الطرفان مئات المدنيين الفلسطينيين – الا ان وضع نظام الاسد لم يتحسن. فالهجوم الذي خططه النظام، بمساعدة ايران و»حزب الله» في جنوب الدولة، من بلدة درعا غربا باتجاه هضبة الجولان، صدها الثوار دون مصاعب. ولا تزال دمشق مهددة ومنطقة القصر الرئاسي تقصف في احيان قريبة بنار الصواريخ كي لا يتمكن الرئيس من النوم بهدوء، بكل معنى الكلمة. كما أن غطاء الامن الذي تمنحه ايران و»حزب الله» للاسد قصير. فبشار الاسد غير قادر على أن يحمي على نحو متواصل كل الذخائر التي بقيت في يده، ويضطر الى التنازل وتخفيف تواجد قواته في المناطق التي يراها أقل حيوية.
للنظام في هذه اللحظة قلقان مركزيان: محاولة مستمرة من الثوار للاقتراب من المطار الدولي في دمشق (فهم لا يزالون بعيدين بضع عشرات الكيلومترات عن هناك، ولكن المنطقة تقصف في احيان قريبة)، ومعركة ستتجدد على ما يبدو في الايام القريبة القادمة في منطقة جبال قلمون، على الحدود السورية – اللبنانية. ومن المهم للنظام حماية مسار تدفق التعزيزات من «حزب الله» من لبنان وبالطبع الاحتفاظ بالمطار. هذه مسائل تقلق اسرائيل ايضا، بسبب مخازن السلاح الكبرى التي توجد على مقربة من المطار. وفي السنوات الأخيرة كانت هناك عدة غارات جوية نسبت لاسرائيل، قصفت فيها ارساليات السلاح المخصصة لـ»حزب الله» في لبنان.
وقال مصدر أمني كبير في اسرائيل لـ»هآرتس» هذا الاسبوع: «نواصل البقاء على الحياد. وهذا ليس أمرا مسلما به، وذلك لأن هناك حاجة للحذر من السقوط في فخ الاغراءات لتحقيق مكسب تكتيكي. ولكننا اوضحنا لكل الاطراف، علنا، بأنه توجد خطوط حمر لن نسمح باجتيازها، وفي الحالات التي يكون فيها خطر على مصالحنا، يحتمل أن نتدخل موضعيا».
كل هذا يحصل بالتوازي مع الحملة الهجومية التي تقودها الولايات المتحدة ضد «داعش»، في العراق وفي سورية. وفي هذه اللحظة، يبدو أن وضع التنظيم المتطرف افضل بكثير في سورية منه في العراق، حيث انسحبت قواته من عدة مناطق وتوقف زخم تقدمه من الصيف الماضي. ولا تزال أسلحة الجو الغربية تهاجم مناطق «داعش» في العراق، بينما سلاحا الجو السعودي والاردني يقصفانها في سورية. ولكن على الارض، في العراق، يجري منذ الآن تعاون غير مباشر بين الاميركيين وإيران (التي تساعد الحكومة والقوات الشيعية في معظمها). وهذه مؤشرات اولية إلى نوع من الانفراج الاميركي – الايراني، على الاقل في مسألة الصراع ضد «داعش»، التعاون الذي خشيت منه اسرائيل حتى قبل ان يتبلور اتفاق الاطار على النووي في ايران.
قبل انطلاق القوات الشيعية في الهجوم على تكريت، مدينة صدام حسين في شمال غربي بغداد، فإن من جاء ليبث روح القتال في المقاتلين كان الجنرال قاسم سليماني، قائد قوة القدس في الحرس الثوري الايراني. والهجوم الشيعي، الذي يعتمد اساسا على قوات الميليشيات فشل (سليماني قام بزيارة مشابهة في جنوب سورية، عشية هجوم النظام هناك، ويبدو انه في الحالتين لم يحقق منفعة كبيرة لمعسكره). وبعد الفشل في تكريت، طلبت حكومة العراق مساعدة عاجلة من الولايات المتحدة. واشترط الاميركيون المساعدة الجوية والاستخبارية بانسحاب الميليشيات واستبدالها بالجيش العراقي. وعندما استجيب الطلب، جزئيا، بدؤوا غارات جوية وحقق الجيش العراقي انتصارا. عمليا، جرى هنا تنسيق غير مباشر اميركي – ايراني، في اطار الحرب ضد «داعش». وعززت احداث تكريت الاشتباه الأوروبي في أن الاميركيين، خلافا لوعودهم، يتحدثون مع الايرانيين في لوزان عن ترتيب اقليمي ايضا، وليس فقط عن الاتفاق النووي.
لا تنقطع المعارك في سورية وفي العراق عما يجري في اليمن. فـ»حزب الله»، الذي تتحداه في الداخل منظمات سنية، ويقيم ميزان ردع مركبا مع اسرائيل، يوجد في الجبهة المتقدمة لمعسكر الاسد في لبنان. هذا ليس كل شيء: فرجاله يقدمون المشورة، الى جانب الحرس الثوري للقوات الشيعية في العراق. ومؤخرا توجد تقارير أميركية عن نشطاء من «حزب الله» وصلوا الى اليمن، لمساعدة الثوار الحوثيين. وفي اسرائيل يأخذون الانطباع بأن المعركة السعودية في اليمن، بمساعدة الرئيس اليمني الحالي، تحقق نجاحا جزئيا. فزخم الثوار تقف، والحوثيون لم يعودوا يعرضون للخطر حرية الابحار في مضائق باب المندب، وهي الامكانية التي تقلق الغرب واسرائيل ايضا.
ولكن كبح النفوذ الايراني، الذي يتناوله متحدثون رسميون في القدس كثيرا مؤخرا، ليس المسألة الوحيدة ذات الصلة باسرائيل في تطورات الحرب في اليمن. فالاردن، الشريك القريب لاسرائيل، قلق من أن يمس حرف جهود المعسكر السني المعتدل الى اليمن بالحرب ضد «داعش»، الاقرب الى حدوده ويعرضه للخطر المباشر. اما المساعدة المصرية الواسعة للحرب في اليمن، فمن شأنها أن تأتي على حساب المعركة التي تديرها القاهرة ضد الارهاب الجهادي في سيناء، والذي يقلق اسرائيل أكثر.
قبل نحو سنتين بدا السودان كجريرة ايرانية، يسمح بشبكة تهريب للسلاح القادم من طهران، دون عراقيل عبر أرضه. اما اليوم فالسودان عضو في التحالف الذي تقوه السعودية في اليمن. وهكذا تشوش مسار تهريب مركزي لايران إلى قطاع غزة، والذي بين هذا وذاك تضرر بشدة بسبب الجهد المصري للعثور على الانفاق في رفح. وهذه الحرب تديرها مصر بلا هوادة. فقد تم توسيع المنطقة العازلة غرب حدود القطاع الى كيلومترين اثنين وقريبا ستوسع الى خمسة، بعد اكتشاف نفق الى القطاع نقطة انطلاقه على مسافة 2.800 متر داخل الاراضي المصرية. والطريقة المصرية بسيطة ووحشية: بداية يدمرون كل المنازل على مقربة من الحدود في رفح المصرية. من يوجد تحت بيته نفق يعاقب (مؤخرا علم عن نية فرض عقوبة الموت على المشاركين في تشغيل الانفاق). واذا لم يعثر على النفق، يحصل السكان على 300 دولار ورخصة لبناء بيت على قطعة ارض أبعد عن الحدود.
في غياب التهريب تقريبا، تركز «حماس» بشكل لا مفر منه على تطوير صناعة سلاح محلية في غزة، وجودة الوسائل القتالية التي تنتهجها هذه الصناعة أدنى من السلاح الرسمي الذي كانت تحصل عليه من ايران في الماضي. وتستعين «حماس» في مساعي الانتاج هذه بالمال الذي تدفع ايران للذراع العسكرية لـ»حماس» ولمنظمة «الجهاد الاسلامي»، وبالمواد التي تهرب بالذات من اسرائيل، عبر معبر كرم سالم، بعد أن يجري تمويهها بأنها مدنية «شرعية».
للصراع من أجل الهيمنة في العالم العربي آثار أخر. فقد ادعت وكالة «معا» الفلسطينية للانباء، الاسبوع الماضي، بأن ايران يئست من القيادة السياسية لـ»حماس»، وستركز من الآن فصاعدا فقط على العلاقة مع ذراعها العسكرية. وافيد هنا، أول من امس، بأنه في المنظمة يتسع الشرخ بين الذراع السياسية والعسكرية، بسبب المواقف المختلفة في قضية اليمن. فقد أعربت القيادة السياسية عن تأييد علني لموقف السعودية، بينما تفضل الذراع العسكرية ايران.
في الخلفية تتواصل الاتصالات غير المباشرة في محاولة لترتيب وقف نار انساني بعيد المدى في القطاع. ويحاول وسطاء أجانب، ضمن آخرين من الامم المتحدة ومن سويسرا، حمل اسرائيل و»حماس» على اتفاق يوقف النار لسنوات. وفي هذه اللحظة يرفض الطرفان التعهد، ولكن هناك احتمالا ما لتطور دراماتيكي. ومثل هذه المهلة الزمنية ستسمح لـ»حماس» بأن تنتعش من اضرار الحرب الاخيرة في الصيف، فيما ستتفرغ لاسرائيل اهتمامات ومقدرات للتركيز على امكانية المواجهة في الساحة اللبنانية، الأخطر من ناحيتها.
اتفاق غير مباشر، اذا ما تحقق، سيسمح لرئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، ان يعرض الحرب كانجاز يضمن هدوءاً بعيد المدى، بالذات في ضوء الانتقاد على شكل ادارة المعركة. ولكن احد الامور التي اتضحت في زمن «الجرف الصامد» كان الصعوبة الاسرائيلية في فهم نوايا «حماس»، المنظمة التي توجد فيها منظومة مركبة من التوازنات بين القيادة السياسية والعسكرية، وبين القيادة في القطاع والنشطاء في الخارج. والشرخ بين الذراع السياسية والعسكرية في «حماس»، على خلفية الموقف من ايران، من شأنه أن يجعل أصعب فأصعب الوصول الى وقف للنار، وفي ظروف متطرفة ان يشجع القيادة العسكرية على المبادرة لأعمال هجومية ضد إسرائيل.
عن «هآرتس»