على هامش السياسة التعليم الإسفنجي في غزة!

توفيق أبو شومر
حجم الخط

إنَّ نشرَ فيديو، لأحدِ المدرسين، وهو يُعاقِبُ مجموعةً من الطلاب بضربهم بالعصا، وهم يتألمون في إحدى مدارس غزة، يوم 2-10-2016 أعادني إلى الموضوع الذي أعتبرُه أساسَ بناء أجيالنا، وهو التربية والتعليم، لا، لأنني كنتُ معلما فقط، بل لأنني أعتبرُ كلَّ مدرسٍ يحمل عصا مجرما في حق رسالته المقدسة، لأنه يُرسل رسالة لطلابه وتلاميذه تقول: "أنا أقفُ أمامَكم وسلاحي للوصول إلى عقولكم، ليس عقلي، وكفاءتي، بل عصاي، التي أحملها في يدي، وهذا يكفي لبثِّ الذُّعرِ في نفوس الطلاب، قبل بدءِ الدرس!".
المدرسُ الكفءُ قادرٌ على الوصول إلى عقول طلابه، إذا كانَ متمكنا من قدراته ومهاراته، كما أن أبرز صفات المدرسِ الكفء هو أنه يحتقر كلَّ مَن يحمل عصا ليعاقب بها طلاب العلم!
والمدرسُ الكفءُ أيضا، لا يستخدم عقابا آخر، ربما يكون أسوأ من العصا، وهو الإهانة بالشتائم، والألفاظ البذيئة، ويعتبر كلَّ مَن يستخدمها من المعلمين، حارسَ سجنٍ بذيئا، لا يستحق أن يكون معلما!
كما أن الطلابَ أذكياءُ، يكتشفون بسرعة قدراتِ مدرسيهم، ويحترمونهم، ويُحبونهم وفق كفاءتهم وثقافتهم، ويمتصون علومَهم بحُبٍ ورغبةٍ، وليس بخوفٍ ورُعبٍ.
مدرسو العِصِي يتحولون، في نظرِ طلابهم إلى سجَّانٍينَ، وجلاّدينَ، ويحولون المدرسةَ كلَّها إلى زنازين.
مَن أراد أن يتأكَّد من صدقِ هذه الحقيقة، فليُراقب الطلابَ وهم يهرولون للخارج في طريقهم إلى بيوتهم، بعد سماع جرس الحصة الأخيرة، يجرون، ويضحكون، ويُشاغبون، ويتعاركون تنفيسا عن قهرِ السجان، مدرس العصا، فَرحين بنجاتهم من السجن، ومن أبرز مظاهر السجن، أنَّ الطلابَ يسعدون ويفرحون بالعطلات المدرسية، وغيابِ مدرسيهم!
إنَّ العقابَ البدني، والإرهابَ يقضي قضاءً تامَّاً على الإبداعات في نفوس الطلاب والتلاميذ، لخشيتهم مِن إظهار تميُّزهم، وإظهار براعتهم وقدراتهم، التي تُخالفُ نظرياتِ مدرس العصا،  حتى لا يتعرضوا للعقاب!
الإرهاب والعقاب في مدارسنا أيضا، يحوِّلُ عقولَ الطلاب المتعلمين من آلةٍ ثائرة متحركة ومبدعة، إلى قطعةِ إسفنج، تمسكُها إصبعا المعلم السجَّان، فوق الحروف والجمل المُقرَّرة، وتضغطان عليها بقسوة لامتصاص تلك الحروف والجمل، ثم تُحنَّط في أوراقٍ، وكراساتٍ، يُرغمُ الأبناءُ المقهورون على شرائها من المكتبات، والمتاجر لزيادة دخل المدرسين المقهورين، ثم يجري عَصْرُ العقل الإسفنجي من جديد فوق ورقة الامتحانات، لتعودَ عقول المتعلمين في النهاية قطعةَ إسفنج جافةً مهترئة، غير صالحة للامتصاص مرة أخرى!!
افتنَّ علماءُ التربية والتعليم، ليس فقط في اعتبار العقاب جريمةً في حق التربية والتعليم فقط، بل إنهم اعتبروا فرضَ التلقين بالصوت الجهوري العالي، وإسكاتَ الطلاب ومنعَهم من الحديث والتعليق والمشاركة في الدرس، وإرهاقهم بالواجبات المنزلية إرهابا تربويا قمعيا!!
ما أحوجَنا إلى الغوص في أفكار علماء التربية، ممن نجحوا في تأسيس أجيال من العلماء والمفكرين، ليس بالقهر والإرهاب، بل بالإقناع والتوعية، واكتشاف المواهب، فتاريخنا العربيُ زاخر بعلماء مربينَ، فكلُّ فلاسفةِ العرب كانوا معلمين، ابن سينا، والكندي، والفارابي، وابن رشد، والغزالي، وصولاً إلى جيل النهضة، جيل الأفغاني، والكواكبي، ومحمد عبده، وطه حسين، والعقاد، وغيرهم؛ هؤلاء سبقوا علماءَ التربية العالميين المشهورين، مثل جون ديوي، ومنتسوري، وثورندايك، وبلوم، وباركهست والمدرس وعالم التربية البرازيلي البارز، باولو فريري، المتوفى 1997 صاحب المقولة: "غاية التعليم الثورة على القهر، باعتماد طريقة الحوار مع التلاميذ!".
استدراك أخير:
يبدو أن دول القمع والإرهاب، تُفضِّل المعلمين القساةَ المنتقمين، حاملي العصي، لأنهم يقمعون الثورة على أنظمة حكمهم في مهدها، في المدارس، والمعاهد، باستخدام الإرهاب لتطويع الأجيال ليخنعوا في مهدهم، لأجل ذلك فإنَّ معلمي العقول الإسفنجية، يقدمون أروع الخدماتِ للديكتاتوريات، فهم يُطيلون في عُمرِ  حكومات القهر والظلم، باغتيال العقول الخلاَّقة المبدعة!!