من صفات الأخبار أنها تحمل الإثارة، ولكن كثيراً من الأخبار الفلسطينية تحمل الغرابة إلى حدّ الغثيان، خاصةً عندما يتعلق الأمر بثقافة التسوّل، أو قبول الصدقات الدولية.
الملاحظ أن كثيراً من المساعدات التي تقدَّم للشعب الفلسطيني تتعمد غرسَنا في هذه الدائرة، حتى تصبحَ جزءاً من منظومة ثقافة «الشحدة».
آخر الأخبار التي تصل إلى حدّ الاستفزاز ضمن هذه الثقافة ما نُشر، أمس، حول قيام وكالة الغوث بتوزيع آلاف الحقائب المدرسية على طلبة مدارسها في قطاع غزة، وهي معونات مقدمة من اليابان أو من طلبة اليابان بشكل أدق. الحملة أُطلق عليها «حقائب الأحلام»... وفي نص الخبر هناك مقابلة مع أكثر من تلميذ وهم يتحدثون عن حقيبة الأحلام.
أية أحلامٍ هذه التي تقزِّم ثقافةَ أطفالنا إلى أن يكون همُّهم حقيبةً مدرسية، وأيةُ أحلامٍ هذه التي تحملها الحقيبة إلاّ أحلامَ التسوُّل لمنتجات لا تقدم ولا تؤخر ولكنها تُحسب كمساعدات على الشعب الفلسطيني.
مَن قال إن طلبةَ غزة بحاجة إلى آلاف الحقائب المدرسية في منتصف الفصل الدراسي؟ ومَن هو الذي يتعمّد أن يغرس في نفوس أطفالنا هذا التوجه؟
توزيع الحقائب المدرسية يبدأ مع منتصف شهر آب قبل بدء العام الدراسي، وتتسابق الجمعيات للإعلان عن حملات بتوزيع هذه الحقائب، لا ندري ما هو السبب؟!! أما كان من الأجدر لتلك الجمعيات والمؤسسات التي تقدم مساعداتٍ على هذا الشكل الذي لا يحمل إلاّ الضررَ النفسي أن تحوّل هذه المساعدات إذا كانت تريد مصلحةَ الشعب الفلسطيني إلى شكل آخر... شكل إنتاجي.
على سبيل المثال، لو أحصينا عددَ الحقائب التي وُزِّعت خلال السنوات الخمس الماضية لربما وصل عددها إلى مئات آلاف الحقائب. لو افترضنا أن كل حقيبة تكلف 20 شيكلاً فقط فإن المبلغَ سيكون كبيراً، وكان يمكن أن نبني من خلاله أربعة أو خمسة مشاغل لإنتاج الحقائب المدرسية، ونشغل فيها ذوي الطلبة الفقراء أو عائلات الأسرى أو الشهداء... يكون إنتاجاً دائماً بأسعار معتدلة، واستدامة للتشغيل، ويمكن أن نُطلق عليها مشاغلَ الأحلام، مثل الحقائب. أيضاً، الأضاحي بحيث وصل الأمر بشأنها إلى حد الاقتتال والاشتباك في بعض المناطق خلال فترة عيد الأضحى، وتعدى الأمر إلى إصدار بيانات والتشكيك في المؤسسات التي توزّع لحومَ الأضاحي التي يرسلها عرب ومسلمون للفقراء في فلسطين، كنوع من الإحساس بالأسى والحزن على هذا الشعب الجائع الذي ينتظر مثل هذه المساعدات، بل إن بعض الجمعيات في تقاريرها التي تقدمها للجهات التي ترسل هذه الأضاحي، تؤكد أن هذه المساعدات القائمة على التسوُّل أدّت إلى إطعام آلاف الأفواه الجائعة.
ولا يقتصر الأمرُ على مثل هذه المساعدات، ولكن لننظر إلى المساعدات التي قُدمت للشعب الفلسطيني منذ عشرين عاماً وحتى اليوم... ولنسأل: كم مصنعاً بنينا من هذه المساعدات، وكم ساهمت هذه المساعدات في عملية الإنتاج؟ وهل اسهمت ملايين الدولارات التي صُرفت على ورش العمل من أجل تنفيذ مفاهيم الديمقراطية والمساواة وحق الانتخاب للنساء في رفع مستوى المعيشة؟ هل ارتفع الناتج المحلي أو الناتج القومي ولو بنسبة لا تُذكر جرّاء هذه المساعدات؟
حقيقة، يجب أن لا يخفى على أحد أن كثيراً من هذه المساعدات ستحشرنا في خندق التسوُّل بكافة أشكاله.. وهي مساعدات مشروطة... آن الأوان لنفكر كيف نبني مستقبلنا بالاستغناء عن هذا الشكل من المعونات التي لا تُسمن ولا تغني من جوع... وليكن ما حصل في مصر خلال الأسبوعين الماضيين وتعليقات آلاف المصريين على مفهوم «التسوُّل» حافزاً لنا ولكثير من العرب على تغيير هذا النهج وهذه الثقافة!!!