ما زالت دولة الاحتلال الصهيوني ترفض الإقرار باستحالة خروجها من مأزقها بخصوص الوضع القائم في الأراضي الفلسطينية، سواء على صعيد الانتقادات الدولية المتكاثرة ضدها، أو بخصوص العمليات الفلسطينية المقاومة المندرجة في «هبة ترويع الإسرائيليين» التي باتت تشكل جزءاً من الوتيرة المزعجة للحياة اليومية للمجتمع الإسرائيلي، فسلطات الاحتلال تواصل عقوباتها الفردية والجماعية، مع تفاقم سياساتها الاستعمارية الاستيطانية في ظل الإذلال ومصادرة الحريات، وإصرارها على تغييب السلطة الفلسطينية.
وفي الثلاثين يوماً الأخيرة، ومع احتفالات «الأعياد» اليهودية، ونشر المزيد من عناصر ما يسمى «الوحدات الخاصة» و«حرس الحدود»، خاصة في القدس، جرى قبل أربعة أيام فرض إغلاق شامل على الضفة الغربية وإغلاق المعابر في قطاع غزة، وقد تعاظمت التضييقات والاعتداءات الإسرائيلية، الساعية لقتل «الهبَّة»، عبر عمليات التنكيل والاعتقالات والإعدامات الميدانية، وتدمير منازل منفذي العمليات، وإقامة الحواجز على مداخل القرى والبلدات والمدن واقتحامها، والسكوت على (بل تشجيع) قطعان المستعمرين المستوطنين في اعتداءاتهم. ويكفي أن القوات الإسرائيلية، بحسب «الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال في فلسطين»، قد قتلت «خمسة صبية فلسطينيين خلال عشرة أيام فقط، ليرتفع عدد القاصرين الذين استشهدوا على يد الاحتلال منذ بداية العام الجاري إلى 31، وأن عمليات قتل الأطفال بهذه الطريقة تشكل إعداماً دون محاكمة وقتلاً خارج نطاق القانون»، فقد تم إعدام فلسطينيين جديدين بإطلاق النار عليهما مباشرة قرب الحرم الإبراهيمي في البلدة القديمة من مدينة الخليل، كما تواصل التنكيل بالأسرى أثناء اعتقالهم، فضلاً عن إعادة اعتقال أسرى محررين، مع استمرار اقتحام المدن والبلدات والقرى الفلسطينية، متواكباً مع سقوط العديد من الجرحى الفلسطينيين المستهدفين بالرصاص الحي والمتفجر (الدمدم) والأعيرة المعدنية المغلفة بالمطاط خلال المواجهات، فيما أكد «تقرير رصد الاعتداءات الإسرائيلية ضد الصحافيين» أن 130 صحفياً أصيب مع التصعيد الإسرائيلي ضد الصحافيين، وجرى إغلاق أربع إذاعات فلسطينية.
قليلون، في إسرائيل، من يقرون أن سبب ديمومة «الهبَّة» هو استمرار الاحتلال. وفي حين يشارك كتاب مؤثرون وقادة أجهزة أمنية إسرائيليون في ترسيخ كذبة أن الصراع هو ديني ضد اليهود، متجاهلين كون الاحتلال وممارساته العدوانية هي التي أوصلت الشباب الفلسطيني إلى حالة لم يعد معها أمامهم سوى المقاومة بأي وسيلة متاحة، فالاحتلال هو «الصانع الأول» لأي مقاومة، أي أن تجدد العمليات، وآخرها العملية البارزة للشهيد مصباح أبو صبيح في القدس المحتلة، يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، أن تصريحات القادة العسكريين والسياسيين الإسرائيليين، حول القضاء على «الهبَّة»، كانت مبالغاً فيها، لأن الأسباب الموجبة (الاحتلال وتوابعه) ما زالت موجودة، وعن المسؤولية الإسرائيلية، يقول «ألوف بين»، محرر صحيفة «هآرتس»: «الإسرائيليون اليوم مختلفون، وهم أكثر عنصرية وتشدداً. يرفض الإسرائيليون أن يصارحهم أحد بالقول على مسامعهم مباشرة إنهم غير أخلاقيين، وذلك تعبيراً عن ضعف الثقة بالنفس أيضاً».
من جانبه، يقول «حنان يزدي»، رئيس مجلس الطالب والشبيبة الإسرائيلي: «خلال العام الأخير حطمنا أرقاماً قياسية كثيرة في دولة إسرائيل في حجم التحريض والعنف في الإنترنت، وفي العنصرية وكراهية الآخر، وأنا أقول حطمنا تلك الأرقام لأننا جميعاً حطمناها بالفعل، جميعنا متهمون بذلك. جميعنا، دون الانتباه، ساهمنا في عمليات التحريض».
أما عن الروافد المغذية لنهر المقاومة الفلسطينية المتدفق بأشكال متنوعة، فإننا نلحظ امتلاء الأدبيات السياسية الإسرائيلية بما يلخصه «يوآف ليمور» بقوله: «لا يوجد أي تغيير في الأفق. إن واقع العمليات بقوة متبدلة قد يرافقنا في المستقبل القريب، فالجمود السياسي الذي يدخل في سياقه تداخل 2.8 مليون فلسطيني مع 400 ألف مستوطن في (يهودا والسامرة) يخلق الواقع المعقد في الميدان، والتي سيزداد تعقيداً في المستقبل، لكن هناك أيضاً أمور أخرى كثيرة منها، في (يهودا والسامرة) نسبة البطالة البالغة 20% مقابل 5% في إسرائيل، والنسبة الأكبر هي في أوساط الشبان في أعمار 15 -40 سنة، حيث يوجد حوالي مليون مثقف، بعضهم يحملون اللقب الثاني، وفي أفضل الحالات هم يعملون في غسل الصحون بأجر قد لا يتجاوز 60 شيكل يومياً».
خلاصة القول: الاحتلال يولد مقاومته التي تستمد استمراريتها من استمرار الاحتلال. والهدوء، المطلوب إسرائيلياً، ليس سوى سراب حيث سيبقى عجز الاحتلال عن منع العمليات الفردية الناجمة عن طاقة يولدها كل من اليأس والأمل الفلسطينيين على حد سواء. هذا الواقع، استدعى أن تختم صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية افتتاحيتها بعد عملية أبو صبيح بالقول: «الوضع لن يتغير كثيراً في المستقبل القريب، وهذه العمليات قد تتبعها موجات أخرى غير متناهية من العمليات».
أما «كوبي ميخائيل»، الباحث في «معهد دراسات الأمن القومي»، فيستنتج أن إسرائيل تعالج «أعراض الظاهرة وليس أسبابها، وفي ظل غياب رد فعلي على العوامل التي أدت إلى نشوء هذه الموجة، وعلى رأسها الاحتلال الإسرائيلي والطريق السياسي المسدود، يمكن الافتراض أنها ستستمر بسماتها الحالية وتقلباتها».