هدنة كذابة

هاني عوكل
حجم الخط

لا تعني الهدنة التي أعلنت عنها روسيا حديثاً حول وقف العمليات القتالية بشكل مؤقت في شرق حلب، أن التوتر أخذ يهدأ وأن السلام قاب قوسين أو أدنى من التحقق، بل لعل هذه الهدنة بمثابة الهدوء الذي يسبق العاصفة في واقعة حلب.
الهدنة التي طرحتها موسكو لتجميد النزاع في أوقات محددة بين ثمانٍ إلى إحدى عشرة ساعة، لا علاقة لها بالحديث عن مساعي استكمال المسار السياسي وتهيئة الظروف والمناخات لخفض النزاع بشكل تدريجي والارتكان إلى الحل السياسي.
فكرة الهدنة جاءت من أجل التحضير لجولة جديدة من النزاع المسلح، يتضمن ذلك رغبة روسيا في خروج قوات المعارضة المعتدلة عن شرقي حلب، وتسهيل هذه العملية عبر ممرين اقترحتهما موسكو الأول هو الكاستيلو والثاني عبر سوق الحي.
التدقيق كثيراً في موضوع الهدنة المؤقتة واقتراحها، يشكل مؤشراً بالنسبة للروس على أن الحوار السياسي لا جدوى منه، وأن الحل العسكري يبقى هو الأمل في إنهاء النزاع، بدليل أنه لم يجر الحديث عن هدنة تعتمد على سياسة التدرج في تجميد النزاع إلى حين وقفه بالكامل.
ربما في العقل السياسي الروسي نية ترحيل السوريين الذين يقطنون مباشرةً في مناطق النزاع الملتهبة، بهدف عودة النزاع وبالتالي إحكام السيطرة على قوات المعارضة المعتدلة، وهو الأمر الذي يقود أخيراً إلى إعادة السيطرة على مدينة حلب.
من المرجح أن روسيا ضاقت ذرعا من تواصل النزاع السوري دون وجود أي أفق للحل، وعلى ما يبدو أنها أصبحت تستعجل تحقيق اختراقات عسكرية تحسب لها، وتجعلها قادرة على المناورة أكثر في الفضاء الدولي، الأمر الذي دعاها إلى استحضار موضوع الهدنة.
الولايات المتحدة الأميركية غير أنها تريد الدمار والخراب لسورية، فإنها تحاول المناورة أيضاً من أجل تقليل نسبة الخسائر، وكونها بعيدة عن الميدان السوري عكس الوجود الروسي هناك، فإنها تضرب خصمها في أماكن أخرى.
اليوم وكما الأمس، فإن مجلس الأمن الدولي حلبة من حلبات التشاحن والاختلاف الأميركي- الروسي، وتسعى واشنطن مع حلفائها الغربيين إلى زيادة العقوبات على روسيا، بهدف إضعافها أو جعلها تساوم حول الملف السوري.
في كل الأحوال الحديث عن الهدنة بات يثير اشمئزازاً لدى الجميع، استناداً إلى تجارب كثيرة في مسلسل إخفاق الهدن وتحولها إلى أدوات لاستكمال النزاع واحتدامه بقوة، إذ لم يثبت أن صمدت هدنة وحققت منفعة كبيرة للمدنيين.
إذاً ما يجري لا يعدو كونه مناورة عسكرية وسياسية بهدف تضييق الخناق على قوات المعارضة المعتدلة، أو لعله تحرك روسي قوي من أجل الحصول على أجوبة ينتظر ردها من قبل الأميركان والأوروبيين، من بين ذلك فصل المعارضة المتطرفة عن المعتدلة.
في حقيقة الأمر يجوز القول إن هذا النزاع لا دين ولا أخلاق له، لأنه أولاً يعكس مصالح دول كبرى لا تنظر بعين الرحمة أو الشفقة لحال المنكوبين السوريين أو لأوضاعهم الإنسانية الصعبة، والعبرة عند هؤلاء الكبار هي في تحديد الطرف المنتصر والآخر المهزوم.
لا ينسى أحد كيف أحرقت واشنطن اليابان في الحرب العالمية الثانية من أجل ضمان انتصارها، فحين تعرضت الهيبة الأميركية للمساس كما حصل في ميناء بيرل هاربر، استخدمت الولايات المتحدة أقصى قوتها لاستعادة هذه الهيبة.
الولايات المتحدة حينها لم تنظر إلى حجم الخسارة الإنسانية التي تكبدتها اليابان، إنما في الأخير خرجت منتصرة من هذه المعركة وهذا ما أرادته بالفعل، والحال أيضاً أن روسيا لا يهمها إذا احترق السوريون كلهم عن بكرة أبيهم، اللهم أن يصمد النظام السوري ويحقق الانتصار الذي تريده روسيا.
كذلك الحال بالنسبة لواشنطن والدول الغربية، فهم حين يدعمون المعارضة المعتدلة ويتمسكون بمواقفهم فإنهم لا يعيرون اهتماماً للإنسان السوري، وهو ذات الأمر الذي يدفع موسكو إلى دعم القوات الحكومية السورية من أجل ضمان الوجود الروسي في المنطقة.
إن الهدنة المؤقتة لم تخصص للسوريين والتخفيف عنهم، ولا تعالج أوضاعهم الإنسانية بقدر ما أنها تعالج مصالح أصحابها، والأولى أن تكف الدول الكبرى المؤثرة في النزاع السوري عن هذا البلد وترفع أيديها عنه، والضغط على حلفائها لوقف النزاع تماماً.
هذا ربما حلم أو خيال في ضوء وجود طرفين يعتبران أن الملعب السوري يشكل ساحةً لنزاع غير مباشر، يدفعان به من بعيد وبغض النظر عن الخسائر والمعانيات الإنسانية، اللهم «أنا ومن بعدي الطوفان».
إنه بالضبط عالم ضد الإنسان والإنسانية، لم تعد دولة واحدة تمارس الانتهاكات الجسيمة ضد البشر والشجر والحجر، بل إن أهم منظمة دولية وهي الأمم المتحدة ورأسها مجلس الأمن الدولي، لا تقوم بأي دور حقيقي وملموس يخدم بالفعل النزاعات لجهة وقفها.
الأمم المتحدة تقدم إجراءات تخفيفية ترقيعية أو مسكنات للحل مثل تقديم المساعدات وتوجيه النداء لدول العالم من أجل القيام بواجباتها الإنسانية، غير أنها لا تضع الإصبع على الجرح وتأخذ بمبدأ الثواب والعقاب، ولا تتدخل بشكل عاجل في أوقات الطوارئ لوقف النزاعات.
الأمم المتحدة مثل الطفل فاقد الأهلية، لا حول له ولا قوة في هذه الدنيا، حيث أن قرارها مصادر بين قوى كبرى تتلاطمها، والأساس أن نزاعات كثيرة في العالم ينبغي لهذه المؤسسة الدولية أن تطفئها، لكن العبرة في القوى الكبرى التي تصغّر وتحجم دور هذه المؤسسة الدولية.
نعم إن الأمم المتحدة متهمة وروسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية، كل العالم متهم فيما يدور من مؤامرات في سورية، والساكت عن الحق شيطان أخرس، كما أن الساكت عن قتل واستهداف السوريين هو شيطان أيضاً، وما أكثر الشياطين في هذا العالم المتوحش، فما بالنا بمن يمارسون القتل.
هذه الهدنة المؤقتة ليست هدنة بالمعنى الحقيقي والمسؤول، لأنها هدنة المصلحة التي لا تقود إلى سلام، وإنما تذهب إلى التأكيد على النزاع وتجديد دورته بطرائق مختلفة، وقودها السوريون ووقودها ذلك الدم الذي يُسال على مرمى ومسمع عالم يتفرج.