سقوط الموصل سيجعل "داعش" أكثر خطراً

20162310210249
حجم الخط

بدأ تدفق المتطوعين لـ»داعش» من أوروبا الغربية والعالم الاسلامي بالتوقف في الأشهر الأخيرة. فمن أصل 1000 الى 2000 متطوع شهريا في صيف 2014 تقلص الرقم الى العشرات الذين يصلون بشكل أو بآخر الى العراق أو سورية للانضمام لصفوف التنظيم.
كان «داعش» في صيف 2014 في ذروة قوته بعد احتلال الموصل، المدينة الثانية من حيث حجمها في العراق، وانتصر على أربعة ألوية تابعة للجيش العراقي وسيطر على ثلث الدولة. وقد بدا في حينه أن هذا التنظيم لا يمكن هزيمته. تسونامي «داعش» جر وراءه شبابا مسلمين متحمسين من جميع أرجاء العالم. والآن بعد عامين ونصف العام بقيت الموصل هي القلعة الاخيرة تقريبا لـ»داعش» في العراق، وتراجعت الحماسة في العالم الاسلامي ومعها تراجع تدفق المتطوعين لـ»داعش».
لكن هذا الامر بالذات هو الذي يقض مضاجع اجهزة الاستخبارات والامن في غرب اوروبا وفي تركيا والى درجة معينة في اسرائيل ايضا، حيث إن هؤلاء الشباب لا يصلون الى العراق، لأن قيادة «داعش» طلبت من وكلاء تأثيرها في ارجاء العالم وقف تدفق المتطوعين وإبقاءهم في بلادهم من اجل استمرار محاربة «الكفار» في البيت. وكلما زادت الأنباء حول استعداد الجيش العراقي من اجل احتلال الموصل زادت احتمالية العمليات في المطارات والاماكن المكتظة في اوروبا. وقد تم تنفيذ بعض هذه العمليات، في تركيا مثلا. اجهزة العمليات الخارجية التابعة لـ»داعش» تعمل في هذه الاثناء وكأن التنظيم ما زال في ذروة قوته.
حتى لو اختفت فكرة «الخلافة الاسلامية» من العالم، فان التنظيم والايديولوجيا لن يختفيا. فقط الشكل سيتغير وسيستمر الجسم الجهادي في العمل على مستوى العالم، الامر الذي قد يشغل العالم سنوات اخرى طويلة. الدعاية الرسمية والعلنية لـ»داعش» موجهة لمؤيدي التنظيم في أرجاء العالم، من الولايات المتحدة، وحتى تايلاند، وهي تحثهم على تنفيذ العمليات. وما زالت اسرائيل في هامش جهود «داعش»، لكن مؤخرا كشف «الشاباك» عن خلايا فلسطينية تنتمي لـ»داعش»، رغم أن ذلك ما زال هامشيا مقارنة مع غرب اوروبا. وبالنسبة لـ»الشاباك» فان علاج «داعش» لم يعد يقتصر على الساحة الخلفية للارهاب، حيث إن اولئك الشباب الذين لا يذهبون الى سورية، سيحاولون تطبيق ايديولوجيا «داعش» هنا. سقوط الموصل لن يخفف من خطر «داعش»، بل العكس هو الصحيح.

أنفاق مفخخة
منذ أشهر تستعد الموصل للهجوم الكبير. لقد أغرق «داعش» نهر دجلة، الذي يقطع المدينة، بالوقود، وسيتم اشعاله في لحظة دخول القوات الى المدينة. وستغطى السماء بالغيوم السوداء لتشويش القصف الجوي. الدفاع عن الموصل يتم على أيدي قائد عسكري، يبدو ضابطا سابقا في جيش صدام حسين، حيث تم تشكيل كتائب وألوية وتم وضع عدد من العوائق والانفاق والكمائن. وحسب التقدير، داخل الموصل بين 4 آلاف – 8 آلاف مقاتل تابع لـ»داعش». صحيح أن العلاقة الرقمية بين المهاجمين والمدافعين هي في صالح المهاجمين، لكن حرب المدن تحمل معها عامل المفاجأة.
قام رجال «داعش» بنقل عائلات المقاتلين قبل المعركة من الموصل الى الرقة. وفي المقابل وصلت الى الموصل تعزيزات من بعض المواقع التي أخلاها «داعش». والتقارير التي تفيد بأن مقاتلي «داعش» يقومون باخلاء المناطق المحيطة بالموصل هي تحليلات فقط. ويتبين أنهم يتحصنون بشكل متعمد داخل المدينة. ويبدو أن التقدم السريع غير المتوقع للقوات العراقية هو عبارة عن خدعة بصرية، وليس نتيجة انهيار الخطوط، بل نتيجة قرار عسكري حكيم لـ»داعش» عن طريق تركيز المقاتلين على الجهد الاساسي.
بدأ الهجوم على الموصل عمليا قبل بضعة اسابيع، مع تكثيف القصف الجوي الأميركي والعراقي. وبالتوازي يستعد الأميركيون في البحر المتوسط والبحر الاسود والخليج الفارسي مع السلاح القادر على اطلاق الصواريخ الكثيف. قادة القيادة الوسطى الأميركية لم يهتموا فقط بانشاء تحالف قوات عراقية وكردية برية، بل ايضا قاموا بجولة في دول المنطقة من اجل الحصول على الموافقة لمسارات التحليق وخلق تفاهمات حول الصواريخ العابرة التي ستعبر سماء هذه الدول. يمكن القول إن الأميركيين لن يطلقوا صواريخ عابرة تمر فوق سماء سورية بسبب تواجد روسيا والتوتر المتصاعد في العلاقة بين الدولتين. لذلك هم بحاجة الى مساعدة دول اخرى في المنطقة.
عندما أعلن رئيس الحكومة العراقي، حيدر العبادي، في 17 تشرين الاول عن عملية احتلال الموصل، قام عمليا باعطاء الضوء للمرحلة البرية الاولى فقط: فرض الحصار على المدينة، الحلقة الاولى التي وصلت اليها القوات الكردية والعراقية حتى الآن تبعد 50 كم عن مركز الموصل، حيث إن الهجوم ما زال في بدايته، والانقضاض يعتمد على النار الأميركية الكثيفة باتجاه اهداف داخل المدينة وبقوة لم نشهدها حتى الآن. سلاح الجو الأميركي، بمساعدة القوات البرية العراقية التي دربتها الولايات المتحدة والقوات الكردية، البشمركة، التي دربتها تركيا، جميعهم يستعدون لمعركة ستستمر اشهراً، ويُصلون كي تستمر اسابيع فقط.
خلال الحرب في افغانستان طورت القوات الأميركية الخاصة تقنية للقضاء على قادة وضباط ميدانيين. وحدات صغيرة كهذه تعرف الانقضاض يوميا على 3 – 4 اهداف من خلال معلومات دقيقة وصيد القادة بجميع المستويات. هذا ما حدث في السنة الاخيرة في العراق وسورية بالتعاون مع محاربي «الخدمات الجوية الخاصة»، ووحدة الكوماندو البريطانية المعروفة.
كان للطائرات بدون طيار دور حاسم في القضاء على المئات من قادة «داعش». في آذار من هذا العام قتل في سورية أبو عمر الشيشاني، رئيس العمليات في «داعش». وفي آب قتل الأميركيون أبو محمد العدناني وهو رقم 2 في «داعش» والمسؤول عن ذراع العمليات الخارجية وعن العتاد العسكري والدعاية. زعيم «داعش» نفسه، أبو بكر البغدادي، يحافظ على سرية مطلقة. وظهوره العلني الاخير كان قبل نصف سنة، ولا أحد يعرف حقيقة وضعه بالضبط. الأميركيون يزعمون أن لديهم معلومات بأنه على قيد الحياة، وهو يستمر بادارة التنظيم من الرقة، حيث إن اتصالات «داعش» هناك لم تتضرر. يمكن القول إن الحاق الضرر بقيادة «داعش» والقيادة الميدانية سيؤثر على أداء التنظيم، لكن ذلك غير كاف الى الآن من اجل وقفه كليا.
ستالنغراد «داعش»
إن أداء «داعش» كدولة في حالة تدهور حتى قبل بدء معركة الموصل. في العام الاخير تقلصت المنطقة التي يسيطر عليها «داعش» في العراق الى الثلث، والتنظيم لم يحتل مناطق جديدة. والقوة البشرية لديه انخفضت بـ 30 – 40 في المئة، رغم أنه ما زال يملك 20 ألف مقاتل. والميزانية انخفضت بـ 50 في المئة، خصوصا بفقدان المدخولات من الضرائب والنفط، والعمل الأميركي المكثف ضد اموال التنظيم. أجرة مقاتل «داعش» تصل اليوم 100 – 150 دولار شهريا مقارنة مع 300 دولار في الايام الجيدة.
في بداية طريق «الدولة الاسلامية»، عندما تم احتلال المدن الاولى، قدم «داعش» خدمات بلدية: المدارس، الشرطة وجمع القمامة. حكام المحافظات والمجالس الشرعية راقبوا تطبيق قوانين الشريعة، وكل قرار مناطقي كان يجب أن يحصل على موافقة الحكم المركزي في الرقة. ولعب التنظيم ايضا دورا سياسيا في مجالات مثل الامن والاقتصاد والصحة. كل ذلك آخذ في الاختفاء مع ترك المواقع البلدية الكبيرة. ويمكن رؤية ظواهر قطع الكهرباء أو الجوع.
في السنة الماضية لم نر تقريبا افلاما دعائية توثق قطع رؤوس الأسرى بالملابس البرتقالية. هذا ليس صدفة. دعاية «داعش»، التي كانت رافعة من الرافعات التي وفرت النجاح للتنظيم في اوساط الشباب المسلمين وبثت الرعب في قلوب الكفار، تراجعت كما ونوعا. حجم النشاط في الشبكات الاجتماعية ونشر الافلام والخطابات والمدونات تراجع بنسبة عالية. اعمال مثل احراق الطيار الاردني، لا توجد تقريبا في الشبكة. لقد أثر قتل العدناني، لكن التراجع في هذا المجال بدأ قبل ذلك. ومنذ بدء المعركة على الموصل هناك تزايد في حجم الدعاية التي تهدف الى تخويف القوات المهاجمة مع قصص حول الانفاق المفخخة والشوارع المفخخة ايضا. الرسالة واضحة: الموصل شرك الموت لمن سيحاول احتلالها. الدعاية تعمل ايضا تجاه سكان الموصل كي لا يهربوا أو يتعاونوا مع العدو. ويعمل «داعش» بالطريقة المعروفة: اعدام المواطنين المتهمين بالخيانة.
لم يختف «داعش» بل غير مكانه. حين طرد أو ترك مدنا تحت الضغط العسكري للتحالف الأميركي في العراق، انتقل الى المحيط، الى القرى، وقام بممارسة الارهاب من هناك. في سورية يتقلص «داعش» باتجاه الرقة – وهي مركز سلطته الاهم منذ صيف 2013. هناك تتواجد القيادة المدنية والعسكرية، وهناك يتم تحديد الاستراتيجية، وهناك يتواجد القائد أبو بكر البغدادي. المعركة التي ستحدث في الايام القادمة على الرقة هي بالنسبة لـ»داعش» مثل «معركة ستالنغراد». الموصل في العراق مهمة، لكنها تأتي في المكان الثاني بعد الرقة، وهي مدينة يوجد فيها 220 ألف نسمة. وعندما ستسقط الموصل سينسحب رجال «داعش» الى الرقة. وعندما ستسقط الرقة ستنهي «الدولة الاسلامية» دورها ككيان سياسي مع منطقة جغرافية. ولكن رغبة استهداف الكفار لن تختفي.
تقنية التقلص والتوسع حسب التطورات الميدانية هي قرار عسكري وليس ايديولوجيا. ويقف من ورائها ضباط سابقون في الجيش العراقي من مؤيدي نظام صدام حسين. تقنية «داعش» الدفاعية هي التكتيك الذي استخدمه «المتمردون» ضد الجيش الأميركي في حرب الخليج الثانية. في بعض المدن التي كانت تحت سيطرة «داعش» وسقطت في الاشهر الاخيرة في أيدي الجيش العراقي مثل الرمادي وتكريت ورتبا والفالوجة، سفك الكثير من دماء الأميركيين في العام 2003، على أيدي محاربي العصابات والانتحاريين. تراجع «داعش» من هذه المدن دون معركة. وحسب قرار عملي لقيادته: عدم تشتيت القوة، وتركيزها في مناطق حيوية.

مهمة للرئيس القادم
عندما سيطر «داعش» على الموصل، احتاج هذا الامر بضعة اسابيع. بدأت المعركة في 6 حزيران 2014 وانتهت في 4 آب مع دخول البغدادي الى المدينة واعلانه عن انتصار الخلافة. ليس واضحا كم من الاسابيع ستستمر الحرب الآن، لكن فصل «داعش» في العراق اقترب من نهايته كما يبدو. وفي لحظة انسحاب التنظيم من الموصل سينتقل ثقل الحرب الى الاراضي السورية. هذا هو التحدي الكبير لروسيا والولايات المتحدة في 2017. في الوقت الذي يدار فيه التحالف في العراق من قبل القيادة المركزية الأميركية التي دربت الجيش العراقي وتحصل على تعاون الاكراد والاتراك الى حد ما، سورية قصة مختلفة كليا. ليس فقط أنه لا يوجد احتكار أميركي للحرب في سورية، بل إن روسيا هي الجهة الاولى المؤثرة في هذه الدولة. لا توجد أي مصلحة أميركية لتدريب الجيش السوري واحتلال الرقة، ولا توجد مصلحة لدى اكراد سورية في التعاون مع الأميركيين من اجل تعزيز وضع الرقة، خصوصا على ضوء ادعائهم أن وزارة الخارجية في واشنطن قد باعتهم لتركيا.
الرقة لا توجد الآن على جدول اولويات الجيش السوري وروسيا. فهم يركزون على استمرار سلطة الاسد ومحاربة المتمردين في حلب وحماة. وهذا ما سينتقل الى الرئيس الأميركي القادم. يمكن أن الرئيس القادم سيجد طريقة للتفاهم مع روسيا من اجل اقتلاع «داعش» من الرقة، وهذا يعني القضاء على «الخلافة الاسلامية» في الشرق الاوسط.
إن احتلال الموصل سيغير وجه العراق وسيؤثر على كل الشرق الاوسط. «داعش» هو الذي كان يعيق اندلاع الحرب الاهلية بين السنة والشيعة، وبين الشيعة والشيعة على خلفية مستوى تدخل التنظيم في الشؤون العراقية، يتبين أنه ليس كل الشيعة في العراق يتحمسون لفكرة تحول العراق الى تابعة لايران مثل سورية. اغلبية سكان الموصل هم من السنة، وصراعات القوة التي ستحدث لحظة تحرير الموصل قد تخلق نوعا من عدم الاستقرار في كل العراق، ونشوء جماعات ارهابية جديدة. نار الحرب بين السنة والشيعة في العراق قد تشعل كل المنطقة.
الموصل لم تسقط بعد، لكن منذ الآن هناك نقاشات حول تأثير انهيار «داعش» على أمن اوروبا والشرق الاوسط. من الواضح أنه حتى بدون دولة أو مناطق جغرافية، فان ايديولوجيا التنظيم الجهادي السلفي ستستمر، واللغز الكبير هو الشكل الذي سترتديه هذه الافكار بنظر الشباب المسلمين المتطرفين والى أين سيتم صب هذه الطاقة السلفية وكيف ستؤثر على الأمن العالمي.