رداً على أكاذيـب بـني مــوريس

350
حجم الخط

الزمن هو المادة الخام الأساسية التي يستخدمها المؤرخون. لهذا فان الخطأ الأكبر للمؤرخ هو التلاعب بالزمن. والمؤرخ بني موريس أخطأ خطأً كبيراً.
في مقال للرد على مقال دانيال بلتمان («هآرتس»، 30/9) زعم موريس أنه عند اتخاذ قرار الأمم المتحدة لتقسيم «أرض اسرائيل» الانتدابية الى دولة يهودية ودولة عربية، بدأ الفلسطينيون في اعمال العداء ضد الحاضرة الصهيونية، وتمت هزيمتهم في نهاية المطاف، وبعضهم هرب وبعضهم الآخر طُرد («هآرتس»، 7/10). ولكن هذا الزعم، الذي هو صحيح بحد ذاته، طُرح بمعزل عن الاحداث التي سبقت حرب التحرير، مع خلق الانطباع المضلل وكأن الحاضرة اليهودية القومية كانت موجودة ومستقرة لسنوات طويلة في «ارض اسرائيل»، الى أن تم الاخلال بذلك في العام 1948 من خلال الاعتداء الفلسطيني.
الحقيقة التي يعرفها موريس جيدا مختلفة تماما: الصراع الصهيوني - الفلسطيني أخذ طابع الصراع القومي السياسي الوجودي ليس في العام 1948، بل مع انهيار الإمبراطورية العثمانية وتوزيع الغنائم الغنية للشرق الأوسط بين القوى العظمى. إحداها، صاحبة الحساسية البروتستنتية، شكلت من بعض الاجزاء العربية وحدة جغرافية قديمة – جديدة، «ارض اسرائيل الانتدابية»، التي لم تكن موجودة قبل ذلك من الناحية الادارية. والتي أصبحت منذ الآن من اجل شعب التوراة أقلية هامشية من بين سكان البلاد في تلك الفترة.
إعلان القوى العظمى، الذي تمت صياغته بلغة ساذجة سعت الى العدل، كتأييد لاقامة وطن قومي للشعب اليهودي في اسرائيل، شمل في ثناياه نوايا عنيفة منها تحويل أبناء البلاد من اغلبية الى أقلية. أبناء البلاد، مثل كل جماعة انسانية ذات وعي جماعي أساسي، ردوا على ذلك بالعنف. وبهذا فان ما تم اعتباره بعيدا عن السياق التاريخي بأنه عنف فلسطيني في العام 1948، كان عملياً استمرار مقاومة أبناء المكان لهذه الجهود من قبل اولئك الذين جاؤوا من اجل السيطرة على وطنهم أو على جزء منه.
حسب مفاهيم صورة الماضي الصهيونية ايضا، من المؤكد أنه بالقرب من وعد بلفور، تم اعتبار العرب مواليد البلاد. في مقال من العام 1917 طرح دافيد بن غوريون الرأي الذي كان مقبولا على النخبة الصهيونية الاولى، بأن الفلاحين الفلسطينيين هم أحفاد الحاضرة اليهودية القديمة، الذين أعلنوا إسلامهم بعد الاحتلال العربي للبلاد. وأنهم شهادة على أن التواجد اليهودي المتجذر في البلاد لم يتوقف أبدا. وهذا يعني أنه يمكنك أن تكون صهيونيا ملائما، وفي الوقت ذاته يمكنك الاعتراف بمولد أبناء البلاد قبل التواجد الصهيوني.
من المعروف أن ذلك لا يلغي حيوية المشروع الصهيوني. فالصهيونية الحديثة ظهرت على منصة التاريخ كاجابة عن الحاجة الاقتصادية، السياسية والهوية الثقافية للشعب اليهودي، الذي لم ينجح في الاندماج في الثقافة الاوروبية. ولأن الكثير من اليهود لهم وعي قومي، والجهات المركزية على الساحة الدولية اعتبرت «ارض إسرائيل» وطنا قوميا لليهود، فان القوى التاريخية وظروف القرن العشرين حولت تطبيق المخطط الصهيوني الى شيء لا يمكن منعه.
من أجل الاستمرار كمصدر للأمل السياسي لتحرير الشعب، كان على الحركة القومية الفلسطينية معرفة الاساس القومي للصلة الصهيونية بالبلاد، والطابع الذي لا رجعة عنه لإنجازات الصهيونية السياسية. وبالفعل، فإن العناصر المعتدلة في القومية الفلسطينية توصلت في العقود الاخيرة الى مثل هذا الاعتراف. وتراجع موضوع تحرير فلسطين الكاملة، أو تحول من موقف سياسي واقعي الى حلم لا يحمل أي طابع عملي.
في تشرين الثاني 1988 تبنت «م.ت.ف» صيغة الدولتين واعترفت باسرائيل بشكل أحادي. وفي بداية التسعينيات حدث تغير في موقف محمود عباس من الصهيونية. كما أظهر بحث منتدى التفكير الاقليمي لـ»الحنان ميلر»، الذي اعتمد على دراسة تصريحاته باللغة العربية لبضع سنوات. فاذا اعتقد عباس حتى ذلك الحين أن الصهيونية واسرائيل هي ظواهر كولونيالية، نشأت وتستمر بسبب المصالح الامبريالية الغربية، فقد بدأ منذ التسعينيات يعتقد أنه في الصهيونية توجد جوانب واضحة للمشروع القومي في البلاد. وقد بدأ منذ ذلك الحين في العمل على اقامة الدولة الفلسطينية في حدود حزيران 1967 الى جانب دولة اسرائيل.
لكن بالنسبة لنتنياهو ولليمين في اسرائيل فان هذه التطورات لم تحدث. إنهم يصممون على الاستمرار في سرقة اراضي الفلسطينيين خلف الخط الأخضر. ومن أجل تبرير استمرار المستوطنات، يتنكرون للتغيير في الموقف لدى اوساط مهمة في القيادة القومية الفلسطينية، حيث تحول الصراع الذي لا هوادة فيه الى تسليم بالصهيونية. هكذا يقومون بنشر الاكاذيب التي تقول إنه لا فرق بين «فتح» و»حماس» وبين عباس وعرفات، هؤلاء واولئك ما زالوا يتمسكون بالحرب التي لا هوادة فيها ضد اسرائيل.
هذه الاكاذيب تجد الغطاء من قبل موريس، وقد قام بتكرارها في مقال آخر في 21/10 حيث ادعى هناك بدون أساس، خلافا لموقف الخبراء الذين يقرؤون العربية، بأن موقف الحركة القومية الفلسطينية لم يتغير فيما يتعلق برفض صيغة الدولتين. ونظرا لأن هذا الكذب يشكل حجة فاعلة لاستمرار البناء في المستوطنات، يمكن بالتأكيد الموافقة على اعتباره غالياً على المستوطنين، كما قال بلتمان، بغض النظر عن مواقفه الخاص بشأن مشروع الاستيطان.