لا أبالغ في القول إن الأشهر القادمة حاسمة لتحديد مصير النظام السياسي الفلسطيني الذي أقيم من بعد توقيع "اتفاق أوسلو"، ويمكن أن تفتح الطريق لمستقبل وردي أو أسود في ضوء ما سيحدث خلالها.
ففي هذه الفترة يمكن أن تعقد حركة فتح مؤتمرها السابع، وهذا ما سيتقرر في اجتماع سيعقد في التاسع والعشرين من الشهر الجاري، والموعد المستهدف للمؤتمر هو التاسع والعشرون من شهر تشرين الثاني القادم، الذي يصادف ذكرى قرار التقسيم المشؤوم، والذي بات يومًا للتضامن مع الشعب الفلسطيني.
أما الرئيس محمود عباس فهو في سباق مع الزمن حتى يعقد المؤتمر، وكلما كان أسرع كان أفضل.
إذا عقد المؤتمر في هذا التاريخ أو في تاريخ مقارب، مثل الفاتح من كانون الثاني 2017، فهذا سيقود "فتح" إلى المزيد من التراجع والتشظي، أو إلى التقدم، حيث يهدد محمد دحلان بأنه لن يسمح لـ "أبو مازن" باختطاف مؤتمر "فتح"، حسب تعبيره، ما يعني أننا مقبلون على مواجهة ذات أبعاد إقليمية.
ويفرض ذلك على الفصائل الأخرى والمجتمع المدني والشخصيات الفاعلة أن تتحرك قبل فوات الأوان، و"قبل أن تقع الفأس بالرأس"، فيجب ألا تكتفي بمراقبة ما يجري وكأن هذا الأمر لا يعنيها، أو كأنها تعيش في مكان آخر. كما لا يعقل أن تستخدم "حماس" هذا الخلاف الفتحاوي لخدمة مصالحها الفئوية الضيقة كما ظهر من خلال سماحها بتنظيم مظاهرة لجماعة دحلان في غزة رغم منعها لـ "وطنيون لإنهاء الانقسام" من تنظيم مظاهرة تحت شعار يردده الجميع.
لقد تسربت معلومات غير مؤكدة، وآمل ألا تكون صحيحة، عن نية دحلان وجماعته تنظيم مؤتمر خاص في غزة بشكل متزامن مع موعد المؤتمر السابع بضوء أخضر من "حماس"، ما يعطي - إن حصل - بعدًا آخر يعمق الانقسام بصورة أكبر، إذ سيبدو الانقسام جهويًا (غزيا ضفاويا) وليس ناتجًا عن خلافات سياسية وأيديولوجية ومصالح متضاربة بين "فتح" و"حماس"، ومعسكر كل واحد منهما، وهذا أخطر ما يمكن أن يحدث.
هناك من داخل "حماس" وخارجها من يدافع عن استخدام الحركة للخلاف الفتحاوي من أجل فتح نافذة قد تساعدها على إصلاح علاقتها مع مصر، أو تحظى على الأقل بفتح معبر رفح بمعدلات أكثر، وهذا لعب بالنار، لأن ما بين "حماس" ودحلان وحلفائه العرب من عداء أكثر ما بينها وبين عباس و"فتح".
وليس من مصلحة أحد أن تتناحر وتتقاتل "فتح"، أو أن تسوء العلاقات الفلسطينية والعربية فلا بد من التدخل لمنع تدهور الموقف.
هناك هدفان للرئيس من الإسراع في عقد مؤتمر "فتح" ومن بعده المجلس الوطني: الأول، إغلاق الباب نهائيًا أمام عودة دحلان وبقية "المتجنحين"، وذلك بعد تحرك اللجنة الرباعية العربية.
والآخر، تمديد فترة رئاسة الرئيس، وتجديد شرعيته الفتحاوية والوطنية.
غير أنه لا يمكن الاكتفاء بتجديد الشرعية من دون تقييم أين نحن الآن، وإلى أين نريد الوصول، وكيف نحقق ما نريد، وأين أخطأنا، وأين أصبنا، وما السياسات التي نحتاجها، واختيار القيادات والكوادر والعناصر المناسبة لها؟
سيادة الرئيس، لقد حاولت ونجحت في أشياء وفشلت في أخرى، ولا تملك بديلًا لما سرت عليه، ولا تزال تؤمن به، في وقت تحتاج فيه القضية الفلسطينية إلى تغيير وبدائل تسير بها إلى الأمام، وليس إلى الخلف من خلال إعادة إنتاج نفس المسار، أو إحداث تغيير وهمي بنفس الأشخاص والأدوات، أو بتغيير يتوغل بِنَا أكثر في الطريق الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه. فعليك أن تساعد على حدوث التغيير، الذي يجب ألا يشكل انقلابًا على كل شيء بعجره وبجره، وإنما تغيير يبني على ما هو جيد، ويتخلص مما هو سيئ.
وفي هذه الحالة ستتسع "فتح" والسفينة الفلسطينية لكل من يريد المساهمة والبناء والتغيير الإيجابي المطلوب.
كيف يمكن تفسير إعلان رئيس المجلس الوطني، وهو قيادي في "فتح"، عن عقد المجلس الوطني بعد شهر من عقد مؤتمر "فتح"، من دون بحث هذا الأمر في اللجنة التنفيذية ولا تشاور مع الفصائل التي لا تزال خارجها، مع أن المطلوب توسيع دائرة المشاركين في التحضير لتشمل قطاعات أخرى من مختلف التجمعات الفلسطينية، وبمساهمة فاعلة من الشباب والمرأة والشتات؟!
لقد جرى تقزيم المجلس الوطني من خلال الإعلان عن عقده بشكل انفرادي ليصبح أمرًا فتحاويًا خالصًا، وهذا أمر خطير يجب تداركه بسرعة، من خلال تشكيل لجنة تحضيرية بمشاركة كل من يؤمن بالمشاركة السياسية من داخل منظمة التحرير وخارجها.
وقبل ذلك، لا مفر من الحسم: هل يجب دعوة المجلس الوطني القديم، مع الحرص على تمثيل الفصائل غير المشاركة، إضافة إلى أعضاء المجلس التشريعي الذي يضم 74 نائبًا عن كتلة "التغيير والإصلاح" التابعة لحركة حماس، أم الأفضل تشكيل مجلس وطني جديد؟
في كل الأحوال، يجب أن يتم العمل على عقد مجلس وطني جديد بأسرع وقت ممكن، يكون قادرًا حقًا على تمثيل الشعب الفلسطيني، وعلى إحداث التغيير المطلوب لإنقاذ القضية والشعب وما تبقى من أرض.
أما عقد المجلس الوطني بسرعة وبمن حضر ولتكريس الواقع السياسي وهندسة المؤسسات الوطنية على مقاس شخص واحد أو أشخاص عدة، فهذا من أسوأ ما يمكن أن يحدث للفلسطينيين.
إن تجديد شرعية الرئيس أمر مهم، ولكن الأمر الأكثر أهمية، والذي يجب أن يسبق عقد مؤتمر "فتح" والمجلس الوطني وإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، هو الاستجابة لمطالب الشعب وحقوقه ومصالحه ومشاركته بكل ما يقرر مصيره، والسعي للإجابة عن سؤال: ماذا نحتاج، وكيف نحقق ذلك؟.
ما هي الوظيفة السياسية لعقد مؤتمر "فتح" المجلس الوطني: هل هي تجديد شرعية وبرنامج الرئيس والنظام السياسي الذي تشكل منذ توقيع "اتفاق أوسلو" وأوصلنا إلى الكارثة التي نعيشها؟ إن هذه النتيجة بحد ذاتها تستدعي تغيير الوضع القائم بشكل جذري وليس إعادة تجديده، مع الاكتفاء بتصاعد الدعوات اللفظية لتغييره، وإعادة النظر في العلاقة مع الاحتلال، وتنفيذ قرارات المجلس المركزي، التي يبدو أن النسيان طواها، بشكل واقعي، وعبر عملية لا تتم مرة واحدة، وعبر اتخاذ قرارات غير قابلة للتنفيذ، وأن يقود الرئيس فترة انتقالية يتم فيها إحداث التغيير الذي لا يمكن أن يتحقق بالاستمرار في السياسات القديمة وعلى أيدي فرسان المرحلة السابقة.
المطلوب تغيير وتجديد وإصلاح حركة "فتح" وعموم الحركة الوطنية وإعادة بنائها، ليس من خلال رفع راية عربية هي ليست في الأوضاع الراهنة سوى بوابة الوصاية العربية في وقت وصل فيه العرب إلى الحضيض.
فلا يمكن أن نستمر بالالتزام باتفاق سيئ جدًا، والأنكى والأمر أن إسرائيل لم تعد منذ فترة طويلة تلتزم به، بل تريد من الجانب الفلسطيني أن يلتزم به من جانب واحد فقط.
إن الغائب الأكبر عن التحضير للمؤتمر والمجلس هو الحوار حول بلورة الرؤية الشاملة التي تستوعب التجارب السابقة وتستخلص منها الدروس والعبر، وتنبثق عنها إستراتيجية سياسية ونضالية قادرة على مواجهة التحديات والمخاطر التي تهدد القضية الفلسطينية، وتوظيف الفرص المتاحة.
وبدلاً من هذا التحضير المطلوب، يرفع سلاح "الانضباط" الفتحاوي الذي يستخدم لفصل أو تجميد كل من يكون على علاقة أو يعتقد أنه على علاقة بدحلان.
فقد تم منع اجتماع فتحاوي يشارك فيه أعضاء في المجلس الثوري والمجلس التشريعي.
إن من حق كل شخص أو مجموعة الاجتماع في مكان مغلق وتبادل الرأي، سواء كان أو كانوا دحلانيين أو لا، ولا يجوز منع الاجتماع واعتقال المشاركين إلا إذا قاموا بما يخالف القانون الأساسي الذي يكفل الحقوق والحريات. ومن الخطير كذلك زج الأجهزة الأمنية في خلافات تنظيمية، فلو قام أي كان بعمل تخريبي أو يستعد لعمل تخريبي يجب منعه، ولكن بالاعتماد على الإجراءات القانونية المعتمدة.
كلمة أخيرة للرئيس ... تستطيع أن تتوج حياتك السياسية بشكل يسجله التاريخ بأحرف من نار ونور، من خلال فتح الطريق للتغيير واعتماد خيارات بديلة وطي صفحة الانقسام السوداء، وتمهيد الطريق لعودة "فتح" والحركة الوطنية واحدة موحدة بعيدًا عن كل أشكال الوصاية من العرب وغيرهم، لتعود إلى ما كانت عليه وأكثر كحركة وطنية منفتحة تتنوع فيها الآراء.
وينسلاند يؤكد عدم شرعية المستوطنات "الإسرائيلية"
27 سبتمبر 2023