جاهلية العرب الجديدة

authors-fahmy_howeidy
حجم الخط

خرائط العالم العربي يُعاد رسمها هذه الأيام تحت أعين العرب وفي غيبتهم.
(1)
للمرة الثانية هذا العام، نكأ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان جرحاً غائراً في الذاكرة التركية، مثلته «اتفاقية لوزان» التي وُقعت العام 1923، وبمقتضاها تنازلت الدولة التركية عن 80 في المئة من مساحتها الجغرافية، وهي الاتفاقية التي أنهت رسمياً حكم السلاطين العثمانيين، وبمقتضاها تخلّت تركيا عن السيادة على قبرص وليبيا ومصر والسودان والعراق وبلاد الشام، المرة الأولى كانت حين اجتمع أردوغان في شهر أيلول الماضي مع «المخاتير» الأتراك «العُمُد»، أما المرة الثانية فكانت يوم الأربعاء الماضي 10/19 أمام «المؤتمر الدولي للقانون» الذى عقد في إسطنبول.
كانت «معاهدة لوزان» هي آخر اتفاق وُقّع مع بلد هُزم في الحرب العالمية الأولى، ورسمت الحدود الحالية لدول البحر المتوسط حتى إيران، بعد تفكّك السلطنة العثمانية، وتمّ من خلالها الاعتراف بنظام مصطفى كمال أتاتورك مؤسس النظام الجمهوري.
كلام أردوغان أحدث صداه السريع في اليونان، لأنه أشار في نقده للاتفاقية إلى أن تركيا تنازلت عن جزر قريبة «يستطيع سكانها أن يسمعوا أصوات المتحدثين في إسطنبول»، وفُهم من ذلك أنه يقصد جزر بحر إيجة وتراقيا الغربية التي أُلحقت باليونان وتعيش فيها الآن أعداد من المسلمين الأتراك. الأهم من ذلك أن حديثه استُقبل باعتباره تلميحاً إلى حقوق لتركيا في محيطها. الأمر الذي يبرر وجود قواتها في سوريا والعراق (حلب والموصل). صحيح أنه أكد مراراً على أن بلاده ليست لها أهداف توسعية، وأن العمليات التي تقوم بها خارج حدودها لا تستهدف أكثر من الحفاظ على أمن وحدود تركيا، إلا أن إيضاحاته لم توقف اللغط حول طموحات نظامه التي أيقظتها الفوضى الضاربة فى محيطها وتكالب العديد من الدول على المنطقة بدعوى مكافحة الإرهاب والتصدّي لمشروع الدولة الإسلامية «داعش» (ذكر أردوغان أن عددها 63 دولة). إلى جانب المشككين في الطموحات التركية، ثمة رأي آخر يشدّد على أن أنقرة لا تتطلع إلى أي توسّع جغرافي، لكنها متمسكة بالحفاظ على التركيبة السكانية التاريخية في محيطها، التي تضم أغلبية من العرب السنة، فهي تتوجّس من تحولها إلى أغلبية شيعية «في الموصل مثلاً» تحسباً للنفوذ الإيراني، كما أنها لا تريد حضوراً كردياً على حدودها يفاقم مشـكلتها المزمنة مع «حزب العمال الكردستاني».
(2)
في حين تحارب تركيا في سوريا والعراق وتحتفظ بوجودها العسكري في «بعشيقة»، فإن إيران ذهبت إلى أبعد وتمدّدت بنفوذها وقواتها العسكرية وخبرائها، بحيث صارت أمراً واقعاً وجزءاً من المعادلة السياسية في سوريا والعراق واليمن إضافة إلى لبنان، حتى صرنا في سوريا والعراق بوجه أخصّ إزاء مشهد يُعيد إلى الأذهان التناقض والصراع التاريخي بين العثمانيين والصفويين. وبرغم أن البلدين يحتفظان بعلاقات تجارية جيدة وسياسية هادئة، إلا أن الحاصل في سوريا ومعركة الموصل كشفا عن التعارض الواضح بين سياسات البلدين، إذ تقف إيران متحالفة مع روسيا إلى جانب نظام الأسد، في حين تقف تركيا ضده. أما في معركة الموصل الراهنة، فهي تعارض اشتراك «الحشد الشعبي» المدعوم إيرانياً في تحرير المدينة من سيطرة «داعش» حفاظاً على تركيبتها السكانية، كي لا تفرغ المدينة من سكانها السنة، كما حدث في تكريت والفلوجة، وتتمسّك بمشاركة طيرانها في حملة التحرير، إلى جانب مساندتها قوات «الحشد الوطني» السنية. في الوقت ذاته فإن إيران تعارض مشاركة تركيا في التحرير وتقف وراء معارضة رئيس الوزراء العراقي لأي وجود تركي على الأراضي العراقية. ويعزز المخاوف المثارة على تركيب المدينة أن قائد «الحشد الشعبي» أعلن على الملأ أن قواته ذاهبة إلى الموصل «للانتقام من قتلة الحسين».
ما يهمنا في الأمر أن العراق أصبح تحت السيطرة الإيرانية، وأنه يُعاد تشكيله من جديد جغرافياً وعرقياً ومذهبياً. وهو ما يحدث الآن بدرجات متفاوتة في سوريا وفي اليمن. وبعد ترشيح الجنرال عون المؤيّد من «حزب الله» لرئاسة لبنان، فإن ذلك يصبّ في صالح النفوذ الإيراني الذي لم يعُد ممكناً تجاهله هناك.
لا غرابة والأمر كذلك أن يصبح لإيران دور وكلمة في رسم خرائط المنطقة، الأمر الذي فرض لها مكاناً في المؤتمرات الدولية التي تُعقد لذلك الغرض. ومن المفارقات التي تثير الانتباه في هذا الصدد أنه حين رُتب أمر مؤتمر بحث مستقبل سوريا في لوزان أخيراً، فإن إيران هي التي اقترحت على الولايات المتحدة إشراك مصر فيه، وذكرت صحيفة «الغارديان» البريطانية أن وزير الخارجية الإيرانية محمد جواد ظريف نقل الطلب إلى وزير الخارجية الأميركي جون كيري.
(3)
الفراغ الحاصل فتح شهية الأكراد لتحقيق حلم دولتهم بعدما مزقتهم اتفاقية «سايكس - بيكو» في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وإذا كان إقليم كردستان العراق قد صار مهيّأً للاستقلال الآن، فإن الفوضى التي ضربت الدولة السورية شجّعت أكرادها على إعلان النظام الاتحادي في إقليم الجزيرة الذي يمثل ثلث الأراضي السورية ويقع شمالي البلاد (يضمّ ثلاث محافظات هي الرقة ودير الزور والحسكة). وإلى جانب إعدادهم دستور الدولة الفيدرالية التي يتطلّعون إليها، فإنهم شكلوا بدعم أميركي فصيلاً عسكرياً باسم «قوات سوريا الديموقراطية»، وكان تمدّدُ تنظيم «الدولة الإسلامية» «داعش» عاملاً مهماً وراء تسليح الأكراد الذي استهدف وضع حدّ لمخططات ذلك التنظيم، وكان لتلك القوات إسهامها المقدَّر في تحرير بلدة كوباني/عين العرب من سيطرة «داعش» الذي تمّ بغطاء جوي أميركي.
حين شكّل أكراد العراق «وحدات حماية الشعب» وأنشأ أكراد سوريا قوات بلادهم الديموقراطية، فإن تطلعات إقامة الدولية الكردية لم تعد أحلاماً راودت البعض، وإنما صارت لها شواهدها على أرض الواقع. ولأن الكتلة السكانية الأكبر من الأكراد في المنطقة تقيم في تركيا (عددهم نحو 14 مليوناً)، فإن الأجواء المحيطة رفعت من معنويات «حزب العمال الكردستاني» الذي يتعلق بذلك الأمل ويحارب لأجله منذ أكثر من أربعين عاماً، الأمر الذي كان له صداه لدى الحكومة التركية، خصوصاً أن نشاط الأكراد السوريين يتمّ متاخماً لحدودها الجنوبية.
تحريك الملف الكردي بالصورة الراهنة إذا قدِّر له أن يستمر، فإن من شأنه قلب حقائق المنطقة وإعادة رسم خرائطها، علماً بأنهم يتوزّعون على أربع دول أساسية إذا أضفنا إيران إلى سوريا والعراق وتركيا. وفي هذه الحالة فإن الحدود الجديدة لن تُرسم بغير الدماء، الأمر الذي يُطلق شرارات فوضى لا يعلم حدودها إلا الله.
(4)
والعالم العربي تتفاعل فيه عوامل الفوضى والتقسيم. الإيرانيون توسعوا أفقياً في العالم العربي والروس توسّعوا رأسياً في سوريا، وكل طرف كانت له استراتيجيته، الإيرانيون كانت لهم أهدافهم السياسية والأيديولوجية، والروس كانت لهم حساباتهم السياسية وطموحاتهم العسكرية. وتحت بصر العالم العربي أُطلق العنان للطرفين، فمارس الإيرانيون كل ما بدا لهم في ساحات القتال، وجرّبت روسيا أسلحتها الجديدة وعززت قواعدها البحرية والبرية، ولم تتردّد في تدمير مدينة مثل حلب. وهو ما لم يحرك شيئاً في العالم العربي في حين علت أصوات الدول الغربية مطالبة بمعاقبة روسيا على جرائمها. ومن المفارقات المحزنة أنه في حين كان الروس يواصلون تدمير حلب، فإن قواتهم كانت تجري مناورات على «مقاومة الإرهاب» في الصحارى المصرية، وفي الوقت ذاته صادرت الحكومة البريطانية أموال بعض المؤسسات الروسية في بنوكها عقاباً لها على ما فعلته في حلب. في هذه الأجواء لم تكتف إسرائيل بحالة الاسترخاء الاستراتيجي التي لم تشهد مثلها في تاريخها، ولم تكتف بإطلاق أسرع حملة للاستيطان ولا بتدمير احتمالات القوة العسكرية السورية وتقليم أظافرها، وإنما ذهبت إلى أبعد. إذ تطلعت إلى إحياء مشروع سكة حديد الحجاز الذي بدأه السلطان عبدالحميد قبل 111 عاماً ثم أجهضته بريطانيا. إذ أعلن في إسرائيل عن مشروع لتطوير السكة الحديد والإعداد لربطها بالمحيط الإقليمي، وبمقتضاها سيتمّ ربط ميناء حيفا بجسر الشيخ حسين في الأغوار الشمالية ثم يواصل مسيره إلى الأردن، حيث مدينة إربد لينتهي إلى العاصمة عمان. وقيل إن الهدف من ذلك هو خدمة سكان المنطقة، إلا أن أهدافه البعيدة ليست خافية، حيث ما عاد سراً أن العودة إلى إحياء خط الحجاز هي مدخل محتمل للديبلوماسية الإسرائيلية إلى شبه الجزيرة العربية، خصوصاً بعدما لاحت في الأفق نذر التطبيع وشواهده، التي كشفت ما كان مستوراً وجارياً في الظل. وحين انكشفت المساعي العربية في هذا الصدد، لم يكن مستغرباً أن يكشف الإسرائيليون عن جانب من مخططاتهم لترجمة التطبيع إلى واقع ملموس للجميع.
لم أتحدّث عن «داعش» والمنظمات الإرهابية التي برزت في الساحة العربية خلال سنوات التشرذم والفوضى، لأنها مجرد فقاعات عارضة بلا مستقبل في العالم العربي، فضلاً عن أنها من أعراض الأزمة وليست سبباً لها، لذلك اعتنيتُ بما هو استراتيجي في التحوّلات الجارية، وهي التي تبعث على الدهشة والحزن والاكتئاب، ليس فقط لأنها وقعت، ولكن أيضاً لذهولنا إزاءها، الأمر الذي أقنع اللاعبين بأن الفراغ المخيم أخرج العرب من معادلة الزمان، بحيث أصبح مصيرهم بأيدي القوى الكبرى، ومستقبلهم يقرّره اتفاق واشنطن وموسكو.
إن الذين عملوا على إجهاض «الربيع العربي» حين سعوا إلى قتل الحلم، فإنهم استبدلوه بالفراغ الذي تمدّد فيه كل من هبّ ودبّ. وكانت تلك هي النتيجة.