حسم المعركة على الموصل قريب. فقوات الحكومة العراقية الشيعية والقوات الكردية تطبق على المدينة بدعم من واشنطن وطهران، الخصمين اللذين ارتبطا في حلف غير مقدس هدفه تصفية "داعش". خلال السنة الاخيرة فقد "داعش" معظم المدن التي سيطر عليها في العراق وسورية. وفقدانه المتوقع للموصل هو بالتالي خطوة اخرى في الطريق الى تصفية حلم التنظيم في اقامة الخلافة الاسلامية.
ولكن احتلال الموصل وبعدها ربما ايضا احتلال مدينة الرقة في سورية، عاصمة التنظيم، لا يبشران بنهاية الفكرة والمعتقد اللذين يمثلهما. والاهم من هذا هو انهما لا يبشران بنهاية تواجد "داعش" في مجال العراق وسورية. فهو ومؤيدوه لن يختفوا هكذا، بل ستبتلعهم الصحراء التي جاؤوا منها.
وهكذا من خلال التواجد في أوساط السكان القبليين المؤيدين سيواصل التنظيم الاطلالة على مناطق واسعة، اجتياح مراكز الحكم وأماكن الاقامة، وافشال كل محاولة لاعادة النظام والاستقرار الى شمال العراق والى شرق سورية. سيواصل "داعش" تشكيل بؤرة جذب للشبان المسلمين في ارجاء العالم، وستواصل اجهزته اخراج عمليات الارهاب الجماعية الى حيز التنفيذ.
ولكن فضلا عن مسألة "داعش"، توجد مسألة العراق، إذ إن المعركة اليوم ليست فقط على الموصل. يبدو أنه بخلاف الآمال الأميركية، فان الانتصار على "داعش" لن يضمن الاستقرار ولن يعيد الهدوء الى العراق، بل من شأنه بالذات ان يؤدي الى النتيجة المعاكسة – استمرار تحطم هذه الدولة، تعاظم مأساة سكانها، واستمرار تسلل التطرف والعنف من العراق الى جيرانه.
مغناطيس للإحباط
يعتقد الكثيرون ان العراق كان حالة ضائعة منذ بداية عهده، وان الخطيئة الاولى هي خطيئة البريطانيين والفرنسيين الذين عملوا على قيامه في اتفاقات سايكس – بيكو قبل مئة سنة بالضبط. حتى ذلك الحين وعلى مدى قرابة 400 سنة، كان العراق مجالا يخضع لسيطرة الامبراطورية العثمانية. ومع هزيمة هذه الاخيرة، أقامت بريطانيا وفرنسا على خرائبها سلسلة من الدول المصطنعة، التي كل غايتها خدمة مصالحهما، وإحدى هذه الدول كان العراق.
وبالمناسبة، وبموجب سايكس – بيكو كان يفترض باقليم الموصل ان يكون تابعاً لسورية تحت السيطرة الفرنسية، ولكن البريطانيين نقلوا المدينة الى العراق، بسبب آبار النفط التي اكتشفت فيها. فضلا عن ذلك، في الوقت الذي وقعت فيه الامبراطورية العثمانية والبريطانيون على اتفاق وقف النار سيطر البريطانيون على الموصل في ظل انتهاك وقف النار. وعليه، فلا غرو أن لسورية ولتركيا كانت وستبقى مطالبات بالموصل. فالدولتان لا تسلمان بالطبع بكونها جزءاً من العراق.
ليست وحدها الحقيقة في أن العراق كانت دولة مصطنعة تلاحقه، بل أيضا كونه دولة متعددة الطوائف: فنحو نصف سكانه كانوا شيعة، نحو الربع أكراد، ونحو الربع عرب سُنة. وتحت النظام الدكتاتوري لصدام حسين وكذا تحت اليد الحديدية لاسلافه، كُنست المسألة الدينية والطائفية تحت البساط. ولكن في ربيع 2003 حرر الاميركيون العراق من عبء صدام وجلبوا الديمقراطية للدولة. وهكذا، فان السكان الذين تعوزهم تقاليد ديمقراطية رفعوا الى الحكم بطريقة ديمقراطية احزابا طائفية شيعية. بعضها كان ذا لون اسلامي راديكالي، والامر الوحيد الذين اجادت عمله هو الانتقام من السكان السنة الذين من أوساطهم جاء حتى ذلك الحين حكام الدولة.
لقد استغل هذا الواقع تنظيم القاعدة الذي تحت رعاية الفوضى التي سادت في الدولة – في اعقاب "الاحتلال الاميركي" – عمل كي يحقق في العراق موطئ قدم. واصبح فرع التنظيم في العراق حجر جذب للاحباط ولاحساس الاهانة لدى السنة، الذين رأوا فيه ممثلا مخلصا لقضيتهم في مواجهة الطائفة الشيعية، التي فرضت نفسها على العراق بمساعدة أميركية. ونشوء "داعش" من أعماق الصحراء واقامة الخلافة بقيادته أصبحا سرا علنيا؛ رغم ان كل من له عينان في رأسه عرف هذا منذ زمن بعيد.
الدولة العراقية لم تعد قائمة، ومكانها حلت الفوضى والفراغ، اللذان لا حاكم عليهما. هذا لم يمنع الاميركيين من فتح بوابات العراق، ليس فقط امام "داعش". وذات أهمية أعلى بكثير كانت حقيقة أنهم سمحوا لايران بان تكتسب لنفسها معقلا، فتجعله جسرا بريا الى سورية ولبنان، في الطريق الى تثبيت هيمنة ايرانية – شيعية على كل أرجاء الهلال الخصيب. ومثلما دفع السنة الى اذرع "داعش"، هكذا دفع الشيعة الى الاذرع الايرانية، لسعيهم وراء حليف امين ومخلص.
أحلام كبيرة
تحت رعاية هذه الفوضى سار الاكراد في شمال العراق وثبتوا لانفسهم حكما ذاتيا في مناطق عيش ابناء الطائفة في الدولة، ولكن نجاحهم اشعل المشاعر القومية الكردية في شمال سورية ايضا، في جنوب تركيا، وحتى في ايران. وهذا ما لم يكن بوسع أي دولة وأي مركز قوة اقليمي أو دولي ان يوافقوا عليه، فأولا وقبل كل شيء ينطبق هذا على تركيا، التي توجد في احتكاك دائم مع الاكراد.
ان التحدي الذي شكله "داعش" لواشنطن كان واجب الرد، غير أن إدارة باراك اوباما لا تزال مصممة على عدم العودة لارسال جنود اميركيين الى اراضي العراق. والحل الذي وجد كان بالتالي اعادة بناء جيش الحكومة العراقية الشيعية والميليشيات الشيعية، الخطوة التي تمت بمساعدة غير مباشرة من ايران. والى جانب ذلك قدم التشجيع والمساعدة لحرب الاكراد ضد "داعش".
آتت الخطوة الاميركية ثمارها، ونجحت القوات التي يستخدمونها، الى جانب ايران، في أن توقع بـ"داعش" هزائم نكراء، إن لم تصفّه. ولكن ثمن الانتصار يدفعه السكان السنة في العراق، ممن ينتقم منهم المنتصرون – الشيعة والاكراد. وهكذا، على كل مدينة يخسرها، يحظى "داعش" بجمهور جديد من المؤيدين، شبان سُنة محبطين ومتطلعين الى الثأر.
كما أن المواجهة الكردية – الشيعية على حدود الحكم الذاتي الكردي في شمال العراق محتم. هكذا ايضا الجهد التركي لتثبيت معقل في منطقة الموصل – حيال التحدي الايراني الشيعي وحيال الاكراد – بروح الاحلام العظمى للرئيس رجب طيب أردوغان.
من تغيب عن صورة الفوضى هو بالطبع فلاديمير بوتين. ولكن لا تقلقوا. يمكن التعويل على الرئيس الروسي في أن يستغل كل فرصة يوفرها له ضعف الولايات المتحدة والفوضى التي تجلبها سياستها في العراق. فهو سيعود إلى هذه الدولة أيضا، التي كان فيها حضور روسي مهم في القرن الماضي.