عندما تولّى الراحل ياسر عرفات رئاسة منظمة التحرير في العام 1968 كان في الثامنة والثلاثين من عمره. قاد الثورة ومعه أعضاء اللجنة المركزية وقادة الفصائل الفدائية، وأعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة وأكثريتهم كانوا حينها في العشرينيات والثلاثينيات من أعمارهم، وكذلك كانت معدلات أعمار معظم القادة والكوادر والشهداء الذين خاضوا تلك المرحلة وصنعوا أحداثها الأهم والأخطر في تاريخ القضية. ما يعني أن روح الشباب والحركة الدؤوبة النشطة هي التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وهي التي ضخت الدماء في عروق منظمة التحرير ومؤسساتها، وهي التي منحتها الحيوية اللازمة لطرح القضية بقوة أمام العالم، بل وأمام الشعب الفلسطيني نفسه قبل ذلك.
منذ تأسيس المنظمة جرى تغيير اللجنة التنفيذية 22 مرة، وآخر مرة كانت في 2009، تبعها تعديل طفيف في العام 2015، بإضافة أعضاء جدد بدلاً من المتوفين. واليوم، يزيد معدل أعمار أعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة عن السبعين عاماً. وبعضهم ولج التسعين، أما أعضاء اللجان المركزية والمكاتب السياسية وقيادات الصف الأول للفصائل الوطنية والإسلامية فأغلبهم فوق الستين. حتى الوزارات والمؤسسات الحكومية والأهلية والجامعات لم نعد نشاهد فيها عنصر الشباب ضمن الصف الأول أو الثاني، ما يعني أن طاقة الشباب معطّلة أو محيدة جانباً.
فبعد أن كانت سنوات السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات تزخر بالأحداث الصغيرة والكبيرة، والتغييرات المستمرة والمتواترة، بتنا اليوم، في حالة من السكون والجمود، بحيث تمر سنوات بأكملها، دون أن يتغير شيء من الحال.. وإذا حدث تغيير ما، فعلى الأغلب يكون نحو الأسوأ!
70% من المجتمع الفلسطيني أعمارهم أقل من 29 سنة؛ ما يعني أنه مجتمع فتي. وهذه الأجيال الجديدة نشأت في ظل أوضاع سياسية مختلفة كلياً عن المراحل السابقة، وقد تغيرت فيه المعادلات السياسية التي كانت تتحكم في المشهد السياسي العام، بل وفي بنية النظام الدولي، وكل ما يتصل به، وما يترتب عليه من تأثيرات، وما ينشأ عنه من تداعيات ونتائج، على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ وبالتالي من الطبيعي توقع اتجاهات جديدة ومختلفة، قد تكون امتداداً للبنى القائمة، ولكن بوجه مختلف، وقد تنشأ بنى جديدة على أنقاض البنى الحالية بجوهر وشكل جديدين.
في العديد من الدول المتقدمة بدأت الحكومات تعطي الشباب مراكز قيادية متقدمة، وأحياناً بالغة الخطورة والحساسية، وصار عادياً أن نسمع عن وزير أو وزيرة من صغار السن، والأمثلة كثيرة ومنها: وزيرة العدل الجديدة في أرمينيا "أربينا هوفهنسيان"، مواليد 1983، وزيرة التعليم في السويد "عايدة حاج علي" من مواليد 1987، وزيرة التعليم العالي في فرنسا "نجاة بلقاسم" من مواليد 1977، وزير الخارجية في النمسا "سباستيان كورتس" مواليد العام 1986.
في المنطقة العربية يبدو أن الإمارات العربية المتحدة، الدولة الأولى، وربما الوحيدة التي بدأت تثق بالشباب، وتوليهم مناصب حكومية مهمة، فقد عينت الشابة "شما المزروعي" (22 عاماً) وزيرة لشؤون الشباب، لتكون بذلك أصغر وزيرة في العالم، وكذلك عينت "عهود الرومي" وزيرة للسعادة، وهي في العشرينيات. وفي السعودية عُيِّن الأمير "محمد بن سلمان" وزيراً للدفاع وهو في التاسعة والعشرين من عمره.. مع أن رأي بعض المحللين أن التعيينات في تلك الدول تتم بناء على معايير العائلة الحاكمة، ولا تشترط المنافسة والكفاءة بالضرورة.
في فلسطين، كما هو الحال في البلدان العربية، لا يزال الشباب مهمشاً، رغم تحصيلهم العلمي وكفاءاتهم، إلا أن الحرس القديم، ورجالات الرعيل الأول ما زالوا هم الذين يتبوؤون المراكز القيادية في الفصائل والأحزاب والمؤسسات والجامعات.. رئيس الجامعة يمضي ربع قرن في موقعه دون أي احتمال بتغييره!! أمين عام الحزب يمضي جُلَّ حياته في موقعه، إلى أن يتوفاه الله، باستثناء حالات معينة قليلة. أعضاء اللجان المركزية والمكاتب السياسية وقيادات الصف الأول يبقون في مناصبهم إلى ما شاء الله. الوزراء ووكلاء الوزارات جميعهم ممن تجاوزا الخمسين، وأكثرهم فوق الستين عاماً! ربما الاستثناء الوحيد في الحكومة الحالية هما: وزير التربية والتعليم د."صبري صيدم"، من مواليد 1969، ووزير الثقافة د. "إيهاب بسيسو"، مواليد 1978.
في دراسة مفصلة نشرت في العدد الأخير من مجلة "سياسات"، تبين لنا بالأرقام، أن متوسط أعمار أعضاء اللجنة التنفيذية أكثر من 77 عاماً، وأعمار المجلس المركزي 65 عاماً، وأعمار اللجنة المركزية لفتح 68 عاماً، والمجلس الثوري 59 عاماً، مع ملاحظة أنه تم انتخابهم قبل نحو سبعة سنوات، ما يعني أنهم كانوا حينها بمتوسط عمر 52 عاماً. ومع ذلك فهو سن مرتفع، ولا يعبر عن الشباب. وبالمثل متوسط أعمار نواب كتلة "فتح" في المجلس التشريعي هو 60 عاماً، مع ملاحظة أن معدل أعمارهم حين تم انتخابهم كان 50 عاماً.
وكذلك متوسط أعمار أعضاء المكتب السياسي لحركة "حماس" هو 59 عاماً. وللجهاد الإسلامي 56 عاماً، ومع أن متوسط أعمار نواب كتلة "حماس" في المجلس التشريعي 58 عاماً، إلا أن معدل أعمارهم حين تم انتخابهم كان 48 عاماً. وهو أيضاً رقم مرتفع. متوسط أعمار المكتب السياسي للجبهة الشعبية 66 عاماً تقريباً. وللموضوعية، وحتى نتجنب التعميم، ينبغي الإشارة إلى أن كلاً من الجبهة الشعبية والديمقراطية والمبادرة الوطنية وحزب الشعب بدأت تتخذ خطوات جدية لزيادة نسبة تمثيل الشباب في مختلف أطرها القيادية.
وليس المهم في الموضوع أعمار قيادات الفصائل والأحزاب والمؤسسات الفلسطينية؛ بل هو عدم امتلاكها آليات التجديد والتغيير وتدوير السلطة، لا بالانتخابات الدورية المنتظمة، ولا بأي وسيلة أخرى، الأمر الذي يبقيها متكلسة، ويضعف قدرتها على المبادرة، وعلى التجاوب الديناميكي الحي مع المتغيرات العالمية.
والأخطر من ذلك إبقاء الشباب خارج مواقع التأثير، بل في دائرة التهميش. خاصة وأن الكثير من المؤشرات تؤكد أن عهد الفصائل والأحزاب والتيارات الأيديولوجية قد بدأ يخبو، وإذا ما استمر على هذا النحو، فإن مسألة انتهاء هذا العصر كلياً هي مسألة وقت، وأن البديل الذي سيحل مكانه هو عصر المبادرات الفردية والجماعية غير المؤطرة سياسياً ولا أيديولوجياً.
إذا لم تتنبه القيادة لهذه المسألة؛ فإن الطوفان قادم، والكل سيخسر.