منذ حوالى العام، جاءنى اتصال من المستشارة السياسية للسفارة السورية بالقاهرة. وقالت لى- بعد مقدمة من المجاملات المهنية والشخصية- إن هناك أحد الإعلانات التابعة للقناة التى أتولى إدارتها فى شوارع القاهرة، يُظهر الرئيس السورى بشار الأسد، وهو يحتل مساحة ضخمة من الإعلان، والجزء الأخير من الصورة يبين معاناة الشعب السورى من التدمير والتشريد والقتل.
وقالت لى إنهم يعتبرون هذه الصورة مُسيئة للرئيس بشار، وأنها تُظهره بصورة سلبية. جادلتها وقتها، وقلت لها إن هذه قناة مهنية تحاول أن تكون موضوعية بقدر الإمكان، وإن هذا الإعلان لم يفعل إلا وصف الواقع، ويبين الرئيس السورى فى وضع القوى والمسؤول عن بلده وما يحدث فيه، ويبين فى ذات الوقت معاناة السوريين، فهذه صورة تحمل كل الأبعاد.
فسألتنى عن إمكانية رفع الإعلان من شوارع القاهرة، فأجبتها بأن هذا ممكن إذا ما قررت فى المقابل التوقف عن تغطية الشأن السورى من دمشق، مع العلم أننا القناة العربية الوحيدة التى تنقل من داخل دمشق، ليس انحيازاً ولكن توازناً ومهنية.
يبدو أنها لم تقتنع، وتوجهت إلىَّ بسؤال واضح: هل يمكن رفع الإعلان؟. فاعتذرت لها بالنفى. وقبل أن تنهى كلامها قالت لى: هل تسمح لى أن أسألك سؤالًا: هل تستطيعون أن تعلقوا فى الإعلانات الخارجية إعلاناً يمس زعماء خليجيين، ودولاً خليجية، فأجبتها فى إطار المهنية والحرفية: نعم، فردت بمزيج من الدهشة والاستنكار والتشكيك بتساؤل: نعم؟! شكراً. وأنهت المكالمة.
تذكرت دهشتها فى التساؤل الأخير، ورغم قطعى وقتها بالإجابة، إلا أنه عادت إلىَّ- خلال الأيام الماضية- الشكوك فى مدى قناعتى بالإجابة القاطعة التى أجبتها.
فى الأسبوعين الماضيين، ثارت ضجة كبيرة حول حملة إعلانية لتلك القناة، أحد هذه الإعلانات يحمل صورة للرئيس التركى، الذى كان على عداوة واضحة بينه وبين دول الخليج، ثم تحولت إلى صداقة منذ عدة أسابيع، وهو يجلس على كرسى الخلافة العثمانية، وقد حبس وقمع المعارضة خلفه فى أقفاص. وإعلان آخر يحمل صورة لمرشد الثورة الإيرانية، خامنئى، وهو يلتقط صورة سيلفى مع أبرز معالم دول الخليج، فى إشارة واضحة إلى مطامعه التى لا تخفى على أحد فى دول الخليج، فقامت الدنيا ولم تقعد، واعتبر بعض المسؤولين فى دول خليجية أن هذا الإعلان ماسٌّ بهم وبكرامتهم ووطنيتهم وبأمنهم القومى، وأنه إساءة ما بعدها إساءة من دولة كانوا يعتبرونها حليفة، ولم تُفلح معهم محاولات الإفهام، ولكن يبدو أن تلك الأجواء من التوتر والحساسية والتربص سادت، ووصل الأمر إلى خلق قناعة بأن قدرة التعامل والفهم لطبيعة المهنة والممارسة المهنية لدى هؤلاء باتت غير قائمة وغير ممكنة.
لم يتمكن هؤلاء من أن يفهموا الأبعاد المختلفة للصورة، لم يستطع هؤلاء أن يتقبلوا فكرة أن تخرج وجهة نظر أو خبر أو صورة أو إعلان لا يتعاطى بشكل كامل مع رؤيتهم ورغبتهم، لم يستطع هؤلاء أن يقبلوا بأن تكون هناك مساحة للاختلاف داخل العلاقات السياسية، مع الاتفاق على الأهداف الكلية، التى لا خلاف عليها بين دول عربية يُفترض أنها فى خندق واحد. وسادت روح التوتر والرغبة فى إثبات قدرتهم على فرض رؤيتهم وتصورهم وفهمهم لطبيعة المهنة، التى لا يجب إلا أن تكون ذات اتجاه واحد هم يرونه.
استحضرت ذلك الاتصال، الذى أشرت إليه مع المستشارة السياسية للسفارة السورية فى القاهرة، ورأيت أنه واجب علىَّ أن أصحح إجابتى عن سؤالها الأخير، وأن أعتذر لها عن عدم دقة إجابتى فى ذلك الوقت.
عن المصري اليوم