لخالد درويش الستيني تقاسيم وجه شارلز برونسون "المجعلك" وروح وقلب فتي. خالد صديقي القديم في المنافي وجاري في البلاد. شقتي وشقته مثل جناحي طائرة في طابق واحد.
ما أن فتح لي باب بيته، حتى غالطت ما كنت قلت: "وجوه الأصدقاء القدامى مرآة عمرنا". عاد خالد بوجه جديد مشرق، بعد اختفاء غامض لثلاثة أيام. مع قهوة الصباح وسكائره، راح يحكي ابن ترشيحا المولود في مخيم النيرب.
أوّلاً، جلب حجر بناء نافر "طوبزي" وقال: هذا من ركام بيت أبي في ترشيحا. صبّ لي في قدحين مشروباً مقطّراً من السفرجل والأعشاب البرية، وقال: هذا من صنع وتقطير ذواقة خبير وعاشق للطبيعة في ترشيحا.
ليلاً، خطفته التشكيلية الترشحاوية رنا بشارة من رام الله، لحضور "يوم ترشيحا" السنوي، المصادف لـ28 تشرين الأول. في ذلك اليوم من عام النكبة سقطت ترشيحا حرباً، آخر قرية عربية في الجليل الأعلى.
في اليوم التالي لـ"يوم ترشيحا"، أي 29 تشرين الأول، كانت الصحف الفلسطينية تغطّي احتفالات إحياء الذكرى الـ60 لمجزرة كفر قاسم.. ولا شيء عن "يوم ترشيحا"؟!
لكن، في يوم من عام ما من "يوم ترشيحا" ذهب الطيّار إيبي نتان إلى ترشيحا في صحوة ضمير، وطلب من الختيارة شبه المقعدة فاطمة الهواري الصفح والغفران، لأنه شارك في قصف جوّي لترشيحا، ما أسفر عن موت 51 مواطناً تجمعوا في بيت من البيوت.
في كفر قاسم سقط 49 ضحية في العام 1956، كانوا عادوا مساءً من الحقول دون أن يعلموا بحظر التجول عشية العدوان الثلاثي على مصر، فحصدهم الرصاص، وقال الرائد شدمي: هم لا يعرفون؟.. ليرحمهم الله. العدالة الإسرائيلية غرّمته مالياً بما دعي "قرش شدمي" في حينه!
في كفر قاسم سار الآلاف، بينهم أوري أفنيري، مع يافطة: "لن ننسى. لن نغفر.. لن نسامح"، وفي يوم من أيام ترشيحا، ردّت الختيارة فاطمة على نتان بما في العبارة، وقالت له: شوف.. أنا أتعكّز على عكّازة رباعيّة القوائم.. لتكن نهايتك مثل نهايتي قبل أن تموت كما سأموت.
عندما أغار نتان على بيت محمود الهواري الترشحاوي، ، كانت فاطمة في عمرها الـ12 وأصيبت بشلل في عمودها الفقري.
ماتت فاطمة، وبعدها مات الطيار نتان عن (81 سنة)، بعد أن تعكّز على ما تعكّزت عليه فاطمة.. لكن الإسرائيليين لا يتذكرونه بقصته مع فاطمة، بل كرجل سلام ساذج وربّان "سفينة السلام" ثم هبوطه في بورسعيد، وسعيه لمقابلة جمال عبد الناصر لم تتم طبعاً بعد سنوات، قابله ياسر عرفات، قبل أوسلو هذه.
هذا مزيج من الوقائع الشخصية والتاريخ، لكن صديقي خالد درويش، أمضى ثلاثة أيام في ضيافة أهل بلدته، الذين يستضيفون ترشحاوية المنافي مجاناً في فندق، وحمل لأوّل مرّة مشعلاً في مسيرة ألف مواطن، وأنشد معهم "موطني".. وذهب إلى ما سلم وتبقّى من أرض والده، وأكل كوزاً من الصبر، وحمل حجراً من بيت عائلته المنسوف، لأن والده "ابو علي" كان قائد المدافعين عن ترشيحا!
كنت رافقت خالد في زيارتين عجولتين لترشيحا قبل العام 2000، ورافقني في زيارة سريعة لطيرة حيفا 1996. أبي وإخوتي وأعمامي حملوا السلاح حتى سقوط الطيرة في 18 حزيران 1948، ووالده أحمد حمل السلاح حتى سقوط ترشيحا في 29 تشرين من عام النكبة.
ماذا قال العتّاق الباقون لصديقي؟ مثلاً، أن زكي الأرسوزي السوري والمهاجر من لواء الإسكندرون السليب الى دمشق، وأحد مؤسسي "حزب البعث العربي" كان من متطوعي جيش الإنقاذ، مع مؤسس آخر هو وهيب المعلّم، وايضاً، أديب الشيشكلي، الانقلابي الثاني في تاريخ سورية، بعد انقلاب الحناوي.
لنترك التاريخ لبطون الكتب، لكنهم في ترشيحا يحفظون أسماء عائلات صارت لاجئة في مخيمات سورية ولبنان، وهم يعدّون 70 ألف ترشحاوي، مقابل 5 آلاف في ترشيحا 70% منهم مسيحيون.
شيء من الدراما؟ خالد تواصل مع أخيه في حلب، المدمّرة عَبر "السكايب" وحكى له عن زيارته، وفي زيارتنا السابقة التقطت صورة لفاطمة على عكّازتها وأرسلتها إلى الأقرباء في حلب، بناءً على طلب زميلي وصديقي الترشحاوي سعادة سوداح.
"أذكر أن شاعراً ترشحاوياً لاجئاً في سورية، هو صالح هواري، استلم صناديق بنادق في جامعة دمشق، بعد سقوط الجولان في حرب 1967. ماذا ستفعل بنادق فرنسية يدوية ترمي دراكاً من طراز 1936 بعد سقوط الجولان؟
ماذا فعل الترشحاويون في حرب 2012 على غزة؟ ذهبوا فزعة إلى مستوطنة "الماعون" المقامة على أراضيهم المصادرة، ورموها بالحجارة.
ماذا فعل أبو فادي، العضو السابق في بلدية ترشيحا ـ "معلوت" بعد مجزرة صبرا وشاتيلا 1982؟ أمسك بتلابيب الضابط: الآن.. أريد تصريحاً إلى لبنان.. وأول بيت طرقه هناك، فتحت له الباب لاجئة ترشحاوية في مخيم برج البراجنة!
هناك مجلس بلدي مشترك لقرية ترشيحا ومستوطنة "معلوت" (3 مقابل 5)، وكانت أراضي ترشيحا من بحيرة طبريا إلى عكا. لم يبق منها إلاّ أقل القليل.
في "يوم ترشيحا" الجديد، رفض الترشحاوية عرضاً من سكان "معلوت" بالتبرع بـ 220 ألف شيكل مساهمة في إحياء "يوم ترشيحا". هم يأتون إلى سوق في ظاهر القرية، وسكان القرية يذهبون إلى سوق في ظاهر "معلوت"!
بماذا يفاخر الترشحاويون؟ بالإقبال القديم ـ الجديد على العلم والموسيقى والفن، وهناك 90 طبيباً ترشحاوياً فيها وفي المدن والقرى العربية، وأيضاً حتى في مستشفيات إسرائيل مثل "رامبام"، تبدو مقاهيها ومطاعمها كأنها في أوروبا!
في الشعر كتب درويش: "ذاكرة للنسيان" لكنه لا ينسى، والترشحاوية والقواسمية (كفر قاسم) والطيراوية.. وعموم الفلسطينيين الباقين في البلاد لا ينسون: لن ننسى.. لن نغفر.. لن نسامح.
كان عمر الشيخ عبد الله نمر درويش (4 سنوات) وقت مجزرة كفر قاسم. إنه يشارك في احتفالات الذكرى 60 للمجزرة.
ماذا قال أيمن عودة، رئيس القائمة المشتركة؟ كان في كفر قاسم 1500 مواطن. الآن فيها 22 ألف مواطن. كنا في بلادنا 200 ألف والآن هناك 1.5 مليون.. لقد فشلوا في اقتلاعنا، وسيفشلون اليوم.
في زيارة إلى حيفا كتبتُ عموداً مُعنوناً: "لفحة هوى في شمّة هوا" ويقولون: "الهوا دوا" وأمّي في زيارة لي إلى مدينة بافوس على الساحل القبرصي الغربي قالت: آه.. يا ولدي الهوا هنا يذكّرني بالهواء البحري في حيفا!
على صهوة جبل الكرمل قال درويش: كل ما كان منفى يعتذر من كل ما لم يكن منفى.
ترشيحا لا تحتفل بسقوطها؛ بل تحتفل بنهوضها من جديد "لا تذكروا من بعدنا إلاّ الحياة".