مجانين بيت لحم للروائي العيسة.. رواية المهمشين وسيرة الآخرين في الذات

التقاط
حجم الخط

ترك الكاتب "للقارئ والقارئة الحكم على الرواية" وترك "للنقاد الحيرة في تصنيفها"! .. إذن فللقارئ أن يبوح بمدى استمتاعه بالنص، وللناقد أن يفكّر في التصنيف: تصنيف النص، وتصنيف الرواية، والتعمّق في النص شكلا ومضمونا: هل خدم الشكل المضمون؟ وهل (استدعى) المضمون شكله؟ وللقارئ الناقد أن يستمتع ويفكر ويشعر أيضا.

 

الشكل والتصنيف

 

النص محصلة أكثر من 26 حكاية وأكثر من عالم المجانين (المرضى النفسيين)، إنه مجموع قصص تفاوتت في الطول والأحداث، وشخصيات أخرى أتى النص على ذكرها، تقاطعت في السرد، وتقاطعت معظمها في السارد-الكاتب والراوي، ووحدّها المكان وجزء كبير من الزمان، فظهر المكان في عدة أزمنة، كأن الكاتب يسرد حكاية المدينة، وسيرة أهله، ونتفا من سيرته منثورة هنا وهناك.

 

هل أوحى ذلك بفكرة ما؟ فهل لعلاقة الراوي بما يسرد من أثر عليه وعلى نصه؟

 

"رواية شهرزادية" ذلك هو وصف الكاتب لروايته، يتحدث فيها عن آخرين كثر، ربما أكثر مما يحتمله نص قصصي أو روائي، ما إن يدخل بقصة حتى يخرج منها تاركا في الكثير من النهايات إشارة تشويقية لما سوف يتحدث عنه لاحقا، لكنها رواية معاصرة بما اختلفت فيه عن الشكل القديم، بما أضافته من تداخل للقصص ولحياة الشخصيات، عبر أودية قادها بسحريته إلى المصير، لتصب في سفر الرواية الأخير، سفر مشمشي، والذي ما زال يحضر ويحدث الآن وغدا، ما دام هناك مثل هذا العبث-الجنون.

 

ليست شهرزادية فقط، ولا متداخلة كتداخل "كليلة ودمنة" المعروفة، وليست عادية السرد على عادات الساردين والرواة، بل ثمة اجتهاد في وعي الكاتب ولا وعيه في الإتيان بتقنية روائية لتفي بغرض التعبير عن مضمونه- رسالته التي يقودنا إليها.

 

نص موضوعيّ بما قصه عن الآخرين، وبما ترك من مسافة في التعبير عن دائرته الشخصية: الأسرة والذات، والتي كان السرد عنها محدودا.

 

لعلها سيرة غيرية عن كل هؤلاء المهمشين- المجانين، القريبين منه مكانا وزمانا، ورمزا عميقا لوجودية الإنسان وقضيته وصراعه الإنساني على الأرض وفيها؛ فكل هؤلاء الذين يسكنونه ويسكنّه قد أثروا على ذاته، فكأنه وهو يتضامن معهم، يجد في رواية قصصهم رواية له؛ففي ظل سرده عنهم، إنما يكون قد سرد عن ذاته أيضا.

 

لقد كان للعامل النفسي هنا أثّر على الذات الساردة، حيث وجدهم من المؤثرات التكوينية في نظرته للحياة وللبشر وللصراع المفضي إلى الظلم والعبث والجنون بأنواعه العاقل وغيره، فلم يستطع الفكاك منهم ومنهن، فاستسلم لتداعيات الذكريات التي ما زالت تحضر، أو ما يحضر من شبيهها.

 

في ظل ذلك، يتراءى العامل الاجتماعي-الثقافي الذي كان من عوامل الخلل النفسي، في حين يتراءى أيضا من بعيد العمل السياسي-التاريخي، والذي أثّر على المكان، فزاد من اختلالاته الاجتماعية والنفسية أيضا، بما مرّ من دول مرّت هنا، وتركت بصماتها العبثية إلى حد اللامعقول، والتي أصابت المجموع ب"لوثة بيت لحم"، والتي انتقلت عدواها إلى الحكام والإداريين والضباط والأطباء النفسيين أيضا.(جنون العظمة)، والتي ما زال المكان-الوطن مصابا بها، حيث أن العيسة حينما ذكر بيت لحم، إنما كان من باب المجاز المرسل، حيث ذكر الجزء وأراد الكل. كذلك فعل حين سرد عن قريته زكريا التي هجّر أهلها منها، فصاروا لاجئين، حيث رمز من خلال استعراض تاريخها القديم والجديد لوطنه، فما تاريخ القرية في النهاية إلا تاريخ فلسطين.

 

عودا على بدء، فإن رواية "مجانين بيت لحم" هي كما وصفها وصنفها الكاتب فعلا، رواية مكتملة؛ ولعلنا في السطور السابقة قد اجتهدنا نفسيا وفكريا في وجود مبررات كافية لتكون كذلك، ليس كما أراد الكاتب فقط، بل كما ترى مقتضيات النقد الروائي المعمّق.

 

هي رواية، يروي فيها الكاتب عن الآخرين والأخريات الذين واللواتي عاشوا فيه، فكان فيها من عناصر السيرتين الذاتية والغيرية، في ظل تتابع تطورات الأحداث دراميا، كلّ حكاية على حدة، والحكاية الكبرى بشكل عام.

 

بالرغم من ترك الكاتب أسامة العيسة "للنقاد الحيرة في تصنيفها"؛ فإن حيرتنا لم تطل سوى مدة قراءة الرواية، ومدة التفكير في الشكل والمضمون، ومدة الكتابة، حيث وصلت نقديا، وربما وصل آخرون مثلي إلى الادعاء بتصنيفنا لهذه العمل الأدبي الممتع بأنه رواية.

 

 

ثلاثة فصول-أسفار

 

قسم الكاتب روايته إلى ثلاثة فصول، مطلقا على الفصل سفرا، ربما كإيحاء قديم، يشير للعهد القديم التي كانت بيت لحم وفلسطين المكان الرئيس له.

 

وبتأمل أسفار العيسة الثلاثة، نجد أنه جعل الأول والذي أطلق عليه "سفر التكوين" فصلا ممهدا "بين يدي النص" كإطار مكاني وزماني للنص الروائي، كما فعل ذلك ولكن بتقنية تختلف أو تتفق قليلا في روايتيه البديعتين "المسكوبية وقبلة بيت لحم الأخيرة".

 

وقد وصل الكاتب وصلة من التاريخ بالحاضر، بالتركيز على المكان الرئيس-مسرح منطلق ومصير الشخصيات (مستشفى الأمراض النفسية والعصبية في الدهيشة ببيت لحم)، بدءا ب "دي هيشة" إبراهيم باشا المصري في غزوه لفلسطين، حين رأى غابة في المكان كانت تأوي الثوار-المتمردين، طالبا بقصّ شجرها، ومرورا بزيارة الإمبراطور الشهيرة الألماني غليوم الثاني عام 1898، في أوج ازدهار علاقة الصداقة والتحالف بين السلطنة العثمانية وألمانيا، ومرورا أيضا بحرب القرم التي حدثت قبل ذلك زمنيا، بسبب نزع مواطن تلحمي نجمة مغارة المهد، وما أدت نتائج ذلك إلى ما صار يعرف بنظام "استاتيكو"ليس فقط لكنيسة المهد، بل لكنيسة القيامة بالقدس، والذي هو "حصيلة توازن القوى الدولية"، وما سببه كذلك الأب أنطون بولي "أبو اليتامى" من نزاع بين الطوائف بسبب احتفالية داخل الكنيسة، وليس انتهاء بأسطورة د. داهش بك، فتى الدراجات الهوائية الذي صار داعية لمذهب توفيقي بين الأديان، وما ارتبط به من حوادث كحادثة انتحار الفنانة اللبنانية ماجدة حداد. ووصولا إلى بناء مكان لأيتام الأرمن، وكيف من خلال التحولات السياسية في المطقة وفلسطين، تحول إلى نزل للمجانين. وبالطبع فقد استقى الكاتب معلومات من الكتب والروايات الشفوية.

 

 

سفر من لا سفر لهم

 

يرمي الكاتب الروائي من خلال عنوان الفصل إلى رواية المهمشين، أولئك الذين لم يكتبوا حكاياتهم، ولم تغر تلك الحكايات أحدا ليكتبها.

 

ولعل البدء بهذا السفر-الفصل هو البداية الحقيقية-الفعلية للرواية؛ لأنها ببساطة روايتهم، ولأنها أيضا الرواية الأولى التي تنحاز وتنتصر لهم، بل وتثأر لهم/ن.

 

نثر الكاتب في سفره هذا ال 26 قصة التي ذكرناها في سياق تحليل الشكل.

 

التقى مصير الشخصيات في "مستشفى الأمراض النفسية" ومحيطها في الدهيشة وبيت لحم، حيث مرّ ذكر بعض المرضى الذين اندمجوا في المجتمع، ولم يقيموا في المستشفى، حيث يصبح مكان الدهيشة نفسه شبيها بالمستشفى كونه المضيف له.

 

وصنّف الكاتب المرضى-المجانين إلى مرضى خطرين، وغير خطرين، ومجانين عاقلين وعاقلات يسمح لهم بالخروج مثل العبد علوي، حتى أنه تم اقتراح زواج مجنون عاقل بأخرى مثله. ونقتبس حديث يوسف علان: "ليس كل العقلاء عقلاء، وليس كل المجانين مجانين".

 

يمكن استعراض حكايات تلك الشخصيات أفقيا كل على حدة كقصص قصيرة أو قصص قصيرة جدا، ويمكن استعراضها أيضا عموديا، بما تقاطعت به وما تشابهت، من أسباب المرض، (إن كان فعلا كذلك مريضا أو مريضة) والسياقات النفسية والاجتماعية والسياسية والصحية (العامل الوراثي) والاقتصادية.

 

المجنونات

 

رغم ورودهن ضمن السياقات السابقة، إلا أن التركيز هنا يفيد في تسليط الضوء عليهن في سياق نقد المجتمع، حيث يكتسب إيرادهن نقدا اجتماعيا واقتصاديا، من باب الاستقواء عليهن والعدوان عليهن اقتصاديا وعاطفيا وجنسيا. وإرجاع ذلك للزواج المبكر، أو زواج الصغيرة من كبير،وهو بشكل عام نوع من الهستيريا الأنثوية.

 

 

تاريخ وأدب

 

بالرغم من قوله في احترازه قبل بدئه بروايته الشهرزادية كما وصفها "في هذه الرواية مثل ما في الروايات الأخرى، قليل من الحقائق كثير من الخيال، وثرثرة..تماما مثل الحياة"، نقول أنه بالرغم من ذلك، إلا أنه بث في الرواية الكثير من الحقائق، سواء كانت قادمة من الكتب التاريخية والأدبية التي أشار لها، أو من الرويات الشفوية، أو من خلال معايشته لمجانين بيت لحم على مدار 5 عقود، هي سنوات وعيه مذ كان طفلا تتكون لديه الذاكرة. ولعل مقصده "بكثير من الخيال" هو لعبه كراو حين يحرّك الشخصيات ويغير ملامحها وأسماءها لينجو من المنحى التوثيقي، لأن هذه الحكايات فعلا حدثت في الحقيقة، وقدمها من منظور الروائي-الرواية.أي هي دراما من الحياة صارت رواية درامية إن جاز التعبير، "تما مثل الحياة" كما قال.

 

وأخيرا تظل متعة النص أجمل كثيرا من حيرة النقاد؛ فهناك ما هو أهم من التصنيف، حين يخط النص طرقا جديدة في تضافر القص بالتراث بالتأريخ والرواية الشفوية والسيرة والمقالة، لتقدم عملا يذكرنا بجنون ما زال قائما في ظل عبثية الحياة في فلسطين.

 

*وقعت الرواية الصادرة عن دار نوفل –بيروت في252 صفحة من القطع المتوسط، فازت العام 2015 بجائزة الشيخ زايد. أما صورة الغلاف، فكانت صورة عصفور الشمس الفلسطيني، والذي يذكر بعصافير العبد علوي التي كانت تثيره والتي دفعت الكاتب لوصفه بالشاعر لا بالمجنون.