المجتمعات تقيس مستوى تطورها ليس فقط بالتقدم الاقتصادي وارتفاع مستوى المعيشة وحتى طبيعة النظام السياسي، بل هناك شيء لا يقل أهمية وهو قد يكون انعكاساً لما تقدم، ولكنه الأصعب وهو تطور ثقافة المجتمع وتشرب القيم الإنسانية العالية.
فتوجد شعوب ومجتمعات بما فيها عربية قد تطورت اقتصادياً بما يشبه الطفرات ولكنها تزحف على المستوى الثقافي وتسير ببطء شديد بل أحياناً يتولد لدى المراقبين شعور بأنها تتراجع وتتقهقر ثقافياً وفكرياً، لعدة أسباب منها: عدم مواكبة التطور الاقتصادي بتطوير بنية النظام السياسي ودمقرطته بصورة كافية، والتمسك بالقواعد والتقاليد المحافظة وترك المجال مفتوحاً أمام تسرب الخرافات وسيادة مظاهر الجهل بشكل يبدو متناقضاً مع طبيعة التطور الاقتصادي وارتفاع مستوى الحياة في مختلف المجالات بما فيها التعليم، وعدم ارتباط التعليم برفع المستوى الثقافي في المجتمع.
واقعنا الفلسطيني غريب عجيب وهو لا يختلف عن مجتمعات عربية أخرى تعاني من داء الجهل والتخلف.
ولكن وجه الغرابة فيه أننا كنا تحت الاحتلال أفضل ثقافياً وفكرياً وسياسياً مما نحن فيه اليوم على الرغم من نشوء السلطة الوطنية التي من المفروض أنها تمثل دولة تحت الاحتلال، وكل قواعد ومؤسسات الدولة قائمة فيها وينقصها زوال الاحتلال والسيادة الفعلية.
وهذا يعني منطقياً أن تتطور أحوالنا بشكل أفضل من الاحتلال المباشر والمتدخل في كل تفاصيل حياتنا.
على الأقل لدينا نظامنا التعليمي ولدينا منظومتنا الثقافية المستقلة ولدينا قوانيننا المختلفة.
وهذا لا يعني بأي حال أن الاحتلال أفضل بل نسوق ذلك للمقاربة ولتأكيد مدى سوء الوضع.
في زمن الثورة في الخارج كانت هناك ما كان يسميها القائد الخالد ياسر عرفات ديمقراطية غابة البنادق.
وفي إطارها كان صراع سياسي وفكري عميق يدور في أروقة فصائل منظمة التحرير في داخل كل فصيل وبين الفصائل المختلفة والتي تتميز بتنوع فكري وسياسي، ففيها فصائل تنتمي للمعسكر القومي العربي وأخرى وطنية ليبرالية وغيرها يسارية ما بين الماركسية والماوية.
صحيح أن الخلاف كان يحسم في مؤسسات منظمة التحرير بشكل توافقي ولكن المنابر الحزبية كانت تعج بالنقاشات التي كانت تصل أحياناً إلى مستوى الاتهامات وفي أحيان قليلة وصلت إلى مستوى التخوين في محطات مفصلية معينة. ولكن مع ذلك استطاعت الفصائل التعايش في ظروف صعبة للغاية.
وما كان مسموحاً آنذاك في إطار اللغة للتعبير عن موقف مختلف من المفروض ألا يكون كذلك اليوم ونحن نمتلك مؤسساتنا شبه السيادية التي يمكن الاحتكام إليها على المستوى الوطني العام والتي يمكنها أن تحدد مفاهيم وقيما عامة ومحددة في الكثير من القضايا، كما أن هناك مؤسسة قضائية وقانونية للفصل في القضايا الشخصية.
التراجع الذي أصابنا هو الضيق بالاختلاف والاجتهاد ومحاولة تعميم مواقف وقيم بذاتها على الجميع.
ويمكن القول إننا ومنذ الانتفاضة الثانية التي أعادتنا للخلف عقوداً طويلة لم نعد كما كنا، وأصبحت سياسة التخويف والتجريم هي السائدة حتى لو لم يكن هذا يتبدى باستخدام القوة الجسدية، فهناك عملية استقواء تجري باستخدام أدوات التأثير على الرأي العام وخاصة وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، فيكفي أن تطلق جهة معينة أو شخص اتهاماً أو وصفاً سلبياً لشخص آخر أو جهة ما حتى يصبح متداولاً وكأنه حقيقة دامغة دون التدقيق والتمحيص بفحوى الموضوع.
والمصيبة الأكبر هي طبيعة الحوار الذي يجري على صفحات التواصل الاجتماعي التي تبدأ من التشكيك مروراً بالاتهامات القاطعة وصولاً للشتم بأبشع الأوصاف وأقذعها.
هذا الواقع هو انعكاس لعدم وجود ثقافة الحوار وعدم تقبل الرأي الآخر فكل من يعتقد أنه يملك الحقيقة سواء لأنه متدين مثلاً أو يعتقد أنه أكثر فهماً ووعياً من الآخرين لا يقبل حتى مجرد الاستماع للرأي الآخر.
فمن ذا الذي يستطيع أن يحاور شخصاً ينتمى إلى المدرسة الربانية التي لا يأتيها الباطل من أي مكان، أو مدرسة احتكار الوطنية أو احتكار القيم الاجتماعية "الصحيحة".
ويبدو أن هذا الوضع يتفاقم مع الوقت تأثراً بالفكر الداعشي والإقصائي.
نحن بحاجة إلى استعادة التوازن اجتماعياً وسياسياً وفكرياً وثقافياً لنفكر بواقعنا الذي نعيش والذي يجمع الجميع على أنه سيئ بامتياز.
ولكي نتخلص من أزمتنا لابد من حوار سياسي واجتماعي وفكري عميق يكرس ثقافة التعددية في كل المجالات والتكامل الذي يجعلنا نستفيد من كل طاقة وفكرة وموقف طالما هو يصب في الصالح العام، وطالما هو في إطار الاجتهاد الذي يتوقع أن يكون صواباً.
فالحقيقة نسبية ولا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة وإلا فإنه لا ينتمي لعالم البشر.
وعندما نحترم الرأي الآخر ونمتلك صفة حسن الاستماع لما يقول الآخر يمكننا أن نتقدم اجتماعياً وثقافياً وسياسياً.
فمتى تصبح ثقافتنا تقبل التعدد والتنوع والاختلاف.