بقلم: أوري أفنيري*
كان المفاعِل في ديمونا إحدى ثمار التحالف مع فرنسا.
تجذّر في البلاد الاعتقاد أنّ شمعون بيريس هو "أبو المفاعل"، وهذا أيضًا هراء.
والحقيقة هي أنّ المفاعِل كان جزءًا من الصفقة بين إسرائيل وفرنسا، مقابل الخدمة العظيمة التي قدمتها إسرائيل لفرنسا في عملية "قادش"، وكان يهدف إلى تشجيع الصناعة الفرنسية أيضًا.
وقد وفر مبعوثو الحكومة الإسرائيلية المواد المطلوبة من أجل تصنيع قنبلة ذرية في أماكن مختلفة في العالم عبر الاحتيال والسرقة.
عموما، خسرت إسرائيل من كل تلك العلاقة مع فرنسا، وأصبحت الفجوة بينها وبين العالم العربي هوّة كبيرة.
(خلافاً لمعظم أصدقائي، لم أعارض إقامة المفاعِل. منحت القنبلة للإسرائيليين وعياً أمنياً كان يمكن استخدامه من أجل السلام. لم أشجب بيريس على دوره في هذا المفاعل أبدا).
كانت حياته تشبه قصة سيزيف من الأسطورة اليونانيّة القديمة، الشخص الذي حكمت عليه الآلهة أنّ يحمل صخرة ثقيلة من أسفل الجبل حتى أعلاه، وفي كل مرة كان يقترب فيها سيزيف من القمة كانت تتدحرج الصخرة نحو الأسفل.
بعد حرب العدوان الثلاثي سطع نجم بيريس أكثر فأكثر، فعُين مُهندسا للعلاقات مع فرنسا، وحصل على المُفاعِل النووي، ليشغل منصب نائب وزير الدفاع، وكان على وشك أن يتولى منصبا مهما في الحكومة عندما انهار كل شيء فجأة.
أطيحَ ببن غوريون من السلطة في أعقاب "فضيحة لافون"، فقرر إقامة حزب جديد باسم رافي.
لم يتحمّس بيريس وموشيه ديان للفكرة أبداً، ولكن لم يكن أمامهما مناص، لقد كان بن غوريون مُسيطرا عليهما.
لم يكن بن غوريون ناشطا في إقامة حزب "رافي"، ولم يفعل ديان كعادته شيئا.
كان شمعون بيريس مجتهداً وعمل دون كلل، لقد تنقل في البلاد كثيراً، ووصل إلى كل مكان، ولكن النتيجة كانت مخيّبة للآمال: فاز حزب رافي، برئاسة "العجوز" الأسطوري، ذي المجموعة المتنوعة من الأسماء المتألقة، بـ 10 مقاعد فقط وبقي في المعارضة، عاجزا. مرة أخرى تدحرجت الصخرة إلى الأسفل.
وحينها جاء الخلاص من جهة غير متوقعة، جمع عبد الناصر جيشه في سيناء، فساد في إسرائيل ذعر، وانضم حزب رافي إلى حكومة الطوارئ، ولكن وزارة الدفاع المنشودة لم تُعطَ لبيريس، الفاقد للكاريزما، وإنما لموشيه ديان البرّاق، ذي عصابة العين السوداء، الذي أصبح بطلا قوميا وعالميا. أصبح بيريس وزيراً ثانوياً.
عندما انضم حزب رافي إلى مباي التقيت بيريس في جلسة الهيئة العامة للكنيست وسألته عن رأيه حول حزبه الجديد - القديم.
"ستجد الإجابة في النكتة التالية" كما قال: "تزوج أحد الرجال وسأله أصدقاؤه ما رأيك في زوجتك الجديدة. إنها مسألة ذوق، أجاب الرجل، إنها لا تعجبني".
على مدى السنوات الست التالية لم يكن بيريس لامعا، وحينها اندلعت حرب يوم الغفران، فانهارت مكانة ديان، واشتعلت في البلاد احتجاجات واسعة، وفي النهاية اضطرّت جولدا مائير وموشيه ديان إلى أن يستقيلا.
مَن الذي كان سيخلف جولدا بصفته رئيساً للحكومة القادمة؟ لقد أشار الجميع إلى بيريس.
لم يكن مسؤولاً عن كارثة يوم الغفران، كان رجل أمن، شابا وواعدا. اقتربت الصخرة أخيراً إلى القمة، وحينها حدث أمر لا يُصدّق: فجأة أصبح إسحاق رابين رئيساً للحكومة، وليس بيريس كما كان متوقعاً.
أصبحت علاقة الكراهية بين الزعيمين، التي بدأت في حرب 1948، علاقة ذات عداوة.
ولكن بخلاف رغبته اضطر رابين إلى تعيين بيريس وزيراً للدفاع، وبدأت بينهما حرب يأجوج ومأجوج.
بصفته وزيراً للدفاع وحاكماً للأراضي المحتلة فعل بيريس كل شيء كي يُفشل رئيس الحكومة، وفي الوقت ذاته فرح رابين بكل فشل يلحق بوزير دفاعه.
أعلن بيريس مرة عن انتخابات في مدن الضفة، انطلاقا من هدف سيطرة كبار السن المحترمين عليها.
جاءت النتيجة معاكسة: في كل مكان انتُخِب أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية، كانت معروفة بصفتها "منظمة إرهابية" محظورة.
في اليوم التالي دعيتُ إلى مكتب رابين، فوجدته يحتفل تماما.
عمل أتباع بيريس، وعلى رأسهم الناطق باسمه، نهارا وليلا من أجل الإضرار برابين، تحديه وإغضابه. (في "هعولام هازيه" سمينا هذه المجموعة "يونايتيد بيريس"، على اسم وكالة الأنباء الأميركية المعروفة. وسمينا الرجل نفسه "شمعون للإعلان").
في مثل هذا الواقع فعل بيريس الشيء الأكثر خزياً في حياته، فعلا تاريخيا لا يُغتفر.
حتى ذلك الحين أقيمت مستوطنات قليلة في هوامش الأراضي المحتلة.
لقد أقام بيريس المستوطنات الأولى في قلب الضفة الغربية، وأصبح بذلك أبا مؤسسا للكارثة الأكبر منذ قيام الدولة. لقد رثاه زعماء المستوطِنين يوم وفاته.
لم يكن ذلك صدفة. منذ اليوم التالي للاحتلال، عندما دعوتُ إلى إقامة دولة فلسطين فوراً، كان بيريس مقرّبا من مؤسسي حركة "أرض إسرائيل الكبرى"، ولكن عندما أقام المستوطنات لم يعمل وفق أي مبدأ.
عمل من أجل تقويض مكانة رابين البغيض فحسب، أدرك رابين ذلك أيضًا.
لقد اعتمد ذكر إحدى تعبيراته اللاذعة: "مخرّب لا يعرف الكلل"، وهو الوصف الذي التصق ببيريس على مدى سنوات طويلة.
في العام 1976 تقرر تنفيذ عملية معقّدة في مطار عنتيبي في أوغندا، لتحرير مئات الرهائن الإسرائيليين.
نجحت العملية الجريئة، وحظيت بالمجد. يدعي أنصار بيريس أنّ وزير الدفاع هو الذي اقترح تنفيذ العملية وأقنع رئيس الحكومة بها. ويدعي أنصار رابين أنّ رابين هو الزعيم الذي اتخذ القرار الشجاع وتحمّل المسؤولية.
يلقي ذلك الضوء على حقيقة مهمة في حياة بيريس: لقد حقق إنجازات عندما شغل منصبا ثانويا. ففي أيام التآمر مع فرنسا عمل زعيما ثانويا مع بن غوريون، وعمل في عملية عنتيبي زعيما ثانويا مع رابين، وهكذا أيضًا في اتفاق أوسلو.
بعد فترة قصيرة من ذلك اضطر رابين إلى الدعوة لانتخابات مبكّرة، لأنّ مجموعة من الطائرات من الولايات المتحدة قدمت إلى إسرائيل عشية يوم السبت، ولم يكن المدعوون يستطيعون الوصول إلى البيت قبل دخول العيد، أسقط المتديّنون الحكومة. فترأس رابين، بطبيعة الحال، مجددا قائمة حزب العمل.
وحينها حدث شيء ما. مع انتهاء شغل منصبه كسفير لإسرائيل في واشنطن ترك رابين خلفه حسابا بنكيا، وهو أمر كان محظورا في ذلك الوقت.
اتُهمَت ليئا رابين. كرجل حقيقي تحمّل إسحاق المسؤولية واستقال. أصبح بيريس الزعيم الأول وأخيرا اقتربت الصخرة إلى القمة.
عشية الانتخابات كان بيريس يحتفل بفوزه - وحينها، في منتصف الليل، حدث شيء لا يصدّق: فاز مناحم بيغن، الذي اعتبره الكثيرون فاشيا. مرة أخرى تدحرجت الصخرة إلى الأسفل.
عشية حرب لبنان الأولى (التي التقيتُ خلالها ياسر عرفات) اقترح زعيما المعارضة، رابين وبيريس، على بيغن أن يغزو لبنان.
انتهت الحرب بمجزرة صبرا وشاتيلا، أصيب بيغن بالاكتئاب واستقال، فشغل منصبه إسحاق شامير.
بدأت فترة انتقالية، لم يستطع فيها أي من الحزبين الكبيرين السيطرة من دون الحزب الآخر. فأنْجِز اتفاق تناوب.
عندما تولى بيريس منصب رئيس الحكومة حقق أحد الإنجازات الإيجابية الكبرى في حياته: قضى على تضخّم من ثلاث خانات وقاد الشيكل الجديد.
ارتفعت الصخرة مجددا إلى أعلى الجبل، وحينها حدث شيء قبيح. اختطف أربعة شبان عرب حافلة مليئة بالركاب اليهود وسافروا جنوبا.
لدى مداهمة الحافلة قُتل اثنان من الخاطفين. أعلن البيان الرسمي أنّ الأربعة جميعهم قُتلوا في المداهمة.
نشرتُ صورة (لعنات سرغوستي، مصورة "هعولام هازيه") وظهر فيها بوضوح أنّه تم اقتياد اثنين من الخاطفين من المكان وهما على قيد الحياة. اتضح لاحقا أنّهما قُتلا بدم بارد.
خلال تلك الفضيحة خلَفَ بيريس شامير، قام بالعفو عن القتلة، ومن بينهم رئيس "الشاباك".
عندما عاد رابين إلى الحكم، عُيّن بيريس وزيراً للخارجية.
في أحد الأيام علمتُ أنّ بيريس يسعى إلى لقائي، وكان هذا غير عادي، لأن العداوة التي كانت بيننا غدت جزءًا من الفلوكلور السياسي.
على مدى ساعة كاملة تحدث معي بيريس عن الحاجة إلى تحقيق سلام مع منظمة التحرير الفلسطينية؛ لأنّ ذلك كان موضوعا رئيسا في حياتي على مدى سنوات طويلة، وغريبا. تمالكت نفسي بصعوبة لئلا أنفجر ضاحكا، حينها كشف لي بيريس سرا عن المفاوضات التي جرت في أوسلو وطلب مساعدتي على إقناع رابين.
ساهم بيريس فعلا بدوره في تحقيق الاتّفاق، لم يتخذ رابين القرار المصيري، ولكن دفع حياته ثمنا.
يراودني المشهد كيف ينتظر القاتل رابين على مشارف الدرج بينما يمسك مسدّسا مُلقما بيده.
أتاح لبيريس أن يمر على بضع خطوات منه، ولكنه انتظر رابين، الذي نزل بعد بضع دقائق.
قبل ذلك قررت لجنة جائزة نوبل مَنْح جائزة السلام لعرفات ورابين. أثار أصدقاء بيريس في العالم صخبا، حتى تقرر مَنْح الجائزة لبيريس أيضًا.
وفقا للمنطق كان يجب أن تُمنح الجائزة أيضًا لأبو مازن، الذي وقع الاتفاق مع بيريس، ولكن لائحة الجائزة تسمح بثلاثة فائزين فقط. لم يحظَ أبو مازن بالجائزة.
بعد وفاة رابين ورث شمعون بيريس مؤقتا رئاسة الحكومة. لو أعلن فورا عن إجراء انتخابات، كان سيحقق فوزا عظيما.
ولكن بيريس لم يرغب في الفوز بفضل رابين، وإنما بفضل ذاته. أرجأ الانتخابات لأشهر قليلة.
كانت تلك الفرصة الكبرى في حياته. أخيرا أصبح رئيسا للحكومة، حرّا في اتخاذ القرارات. وكانت تلك كارثة.
في البداية أصدر أوامر لقتل "المهندس"، وهو بطل قومي فلسطيني. كرد فعل بدأت عمليات تفجير في الحافلات في أرجاء البلاد.
بعد ذلك غزا لبنان، وانتهى ذلك بمجزرة جماعية في ساحة الأمم المتحدة في قرية قانا. فاز بنيامين نتنياهو في الانتخابات.
(عندها بدأت بسرد إحدى نكاتي: "إذا كان بالإمكان الخسارة في الانتخابات، فإنّ بيريس سيخسر. إن لم يكن بالإمكان الخسارة في الانتخابات، فحينها سيخسر بيريس أيضًا").
لم أكره بيريس أبدا. أعتقد أنّه لم يكرهني أيضًا. كانت الخصومة بيننا خصومة سياسية "نقية".
أحيانا، كنا نلتقي صدفة تقريبًا. في إحدى المرات دعا الفائز الكبير زوبين ميهتا زوجتي وأنا لتناوُل وجبة عشاء في شقته. عندما وصلنا، اكتشفنا لدهشتنا أنّه قد دعا الزوجين شمعون وسونيا بيريس فقط. كانت تلك أمسية مثيرة للاهتمام. ظهر لي بيريس كرجل حوار مسلٍّ جدّا، فكاهي وماكر. لقد وصف لنا بشكل مفصّل جلسة للحكومة، وهو ينتقل من وزير لآخر: حاييم بارليف ينظّف خلال الجلسة أظافر يديه، وهلمّ جرا.
كانت إحدى الأساطير التي اهتمّ بنشرها بجدية هي أنّه كان شخصية مثقّفة.
رثته صحيفة أميركية مهمة باعتباره "السياسي الفيلسوف".
والحقيقة أنه لم يقرأ كتبا على الإطلاق، كما كشف مساعده، بوعاز أفلباوم، فقد فرض عليه بيريس أن يعدّ من أجله مختصرا لكتب، مع إضافة فقرة أو اثنتين منها، وبهذه الطريقة كان باستطاعة بيريس أن يتحدث بمعرفة عن الكتب في لقاءاته، بل وأن يقتبس منها - وهو الأمر الذي أثار انطباعا كبيرا لدى محاوريه.
هناك تأكيد على هذا الكلام بحقيقة بسيطة: عندما يقرأ إنسان الكتب، ينعكس الأمر في خطاباته بطريقة أو بأخرى. ولكن لم يتجسد ذلك في خطابات بيريس. كانت جميع خطاباته خطابات سياسية، جافّة، وسطحية.
(لا يوجد سياسي ناشط لديه وقت لقراءة الكتب. تنكّر بن غوريون في شخصية مثقّفة، كباحث في الكتاب المقدس وكمجدّد اللغة العبريّة. قال إنّه تعلّم الإسبانية من أجل قراءة رواية "دون كيخوتي" بصيغتها الإسبانية الأصلية. ولكن بن غوريون أيضًا لم يكن سوى سياسي - سياسي عبقري، وليس مجرّد سياسي).
كانت صياغة عبارات بارعة، بدت في ظاهرها كحِكَم عميقة من إحدى المواهب الحقيقية لدى بيريس. عبارات مثل "الشرق الأوسط الجديد"، التي كانت فارغة من أي مضمون، أو "الرأسمالية الخنزيرية"، وهي عبارة لم تشكل عائقا أمامه لإقامة صداقة مع الرأسمالية العالمية.
في كل المعارك الانتخابية شُتِم بيريس وأسيء إليه. اشتكى مرة من "العدد الكبير للحركات الشرقية"، ما زاد من كراهية الجمهور الشرقي تجاهه.
في تلك الفترة قام بيريس بفعل حكيم: خضع لجراحة تجميلية حسّنت كثيرا من مظهر وجهه. ولكن ذلك لم يساعده على الفوز في الانتخابات - هناك حقيقة مذهلة وهي أن هذا الرجل، الذي كانت كل حياته مكرّسة للسياسة، لم يفز في الانتخابات أبدا.
كان الحرج الأخير لبيريس عندما ترشح لمنصب رئيس الدولة. اختار الكنيست بدلا منه موشيه كتساف، وهو ناشط غير مهم في الليكود. كانت تلك إهانة لاذعة. كان يبدو أنّ بيريس أنهى بذلك سيرته المهنية. فبقيت الصخرة في الأسفل.
ولكن مجدّدا حدث أمر لا يُصدّق: أدين كتساف بالاغتصاب. في نوبة من الندم، اختار الكنيست بيريس رئيسا للدولة.
أخيرا وصلت الصخرة إلى أعلى الجبل. أصبح الشخص الذي لا يكلّ بين عشية وضحاها محبوب الشعب. وقف الجمهور، الذي ألقى عليه في الماضي طماطم فاسدة، في كل مكان في الطابور من أجل معانقته. حظي بسنوات قليلة من السعادة. لقد تمتع بالمنصب وبمحبة الشعب.
خدم بيريس حكومة نتنياهو كرئيس، حكومة الاحتلال، وكان بالنسبة لها بمثابة ورقة التوت.
باستثناء الحديث إلى ما لا نهاية عن السلام المنشود، لم يفعل شيئا من أجل تعزيز السلام، مكّنته صدارته الوطنية والدولية من أن يقوم بأفعال كبيرة. ولكنه لم يفعل شيئا.
كانت جنازته حدثا وطنيا ودوليا من الدرجة الأولى. تُوّج بيريس بصفته أحد عظماء الجيل في العالم، رجل السلام الأساسي، أحد مؤسسي دولة إسرائيل، مثقفا كبيرا. كان بإمكانه أن يصبح بطلا في مسرحية شكسبير.
لقد دُفن سيزيف. ولكن صخرته ارتاحت في أعلى الجبل.
*رئيس "كتلة السلام" وعضو كنيست أسبق.