ما قامت به الفنانة الفلسطينية رائدة طه بعرضها "ألاقي زيّك فين يا علي" لم يكن تمثيلاً أو عرضاً مسرحياً بالمفهوم الكلاسيكي، وإنما عبارة عن ضرب كفوف لإيقاظ الميت فينا أو قتل عادات زُرعت فينا وكأننا أصبحنا مجتمعا من "الزامبي"، وربما هو محاولة للخروج من صمتها وسرها الذي باحته فقط لمن احتضنها واحتضن الثورة الفلسطينية، أو رد الاعتبار _وهذا أقل الواجب_ لعائلات الشهداء، فضربتنا جميعاً فكان الجمهور يبكي حزناً على ذاته تارةً ويضحك ساخراً على ذاته تارةً أخرى.
بطريقة غير مباشرة تلقى الجمهور أول كف قبل ظهور الفنانة على خشبة المسرح؛ وذلك من خلال الشاشة التي عُرضت عليها معلومات عن عملية اختطاف طائرة "سابينا" الرحلة 571، من قبل أربعة فدائيين فلسطينيين . وكأن رائدة أصبحت معلمة تاريخ تقول للجمهور الذي أصبح طالباً، إن درسنا اليوم ينطلق من هذه الحقبة التاريخية، فما عُرض على الشاشة "لوح الصف المدرسي" كان تاريخاً لم يُدّرس أو يُذكر لنا في العائلة، الحضانة، المدرسة، الجامعة، الحزب. لقد أعادته رائدة إلى وعينا بضربة كف صامت.
ولم تكتفِ بذلك، فضربتنا بآخر، بقصة الاعتداء عليها التي سردتها بجرأة وسخرية تُخفي غصة وألماً، واصفة ليس فقط شعورها، وإنما شعور نساء لم يستطعن أن يجدن منصة للتحدث عن محاولة اغتصابهن والتحرش بهن باسم الثورة والنضال والكفاح من أجل تحرير فلسطين، واستمرت بصفعاتها حينما وصفت حضور بعض "القيادات" بعد انتهاء عزاء والدها _علي طه_ بذريعة المواساة لأمها زوجة الشهيد والاطمئنان على احتياجاتها، وبغاية خفية تكمن في إشباع حاجاتهم الذكورية.
تناولت رائدة القضية الفلسطينية من خلال قضيتها الخاصة، ولهذا كان هذا العمل هو نتاجها الفردي بكل ما تحمله الكلمة من واقعية تتجسد في وقوفها المتمرد على خشبة المسرح، حتى القصص التي ذكرتها عن "توحة" الأم وعمتها سهيلة هي قصص نجاح فردية في مواجهة الواقع الجديد بعد استشهاد علي الزوج/الأب/الأخ.
ما سردته رائدة عما واجهته توحة كان صاعقا لنا كجمهور لم يدرك تفاصيل تلك المرحلة، وربما وبكل تأكيد أقول بأن حال توحة في ظل ذلك الزمن بكل ما يحمله من مكونات ووجود شخص مثل القائد العام "ياسر عرفات" هو أفضل بكثير من حال واقع أسر الشهداء في يومنا هذا، وربما هناك قصص لم نسمع عن مأساتها بعد، فهل سننتظر رائدة جديدة لتصعد خشبة المسرح وتتحدث عن واقع أسر الشهداء، وتبدأ بتعريتنا من جديد وضربنا كفوفا حتى نشاهد ما لا نشاهده؟
سهيلة "أخت الشهيد" التي أبكتني وأبكت غيري من الجمهور، انتصرت على الجميع دون استثناء... دون استثناء، فهي لم تسترد جثمان أخيها الشهيد من الثلاجة، هي استردت وطنا بأكمله ... وكأنها تريد أن تقول لنا هكذا يسترد الوطن، لم تنتظر أحدا، فالوطن ينتظر من ينظر له. هو الحب الذي لا يعرف اليأس ويثابر لاسترداد ما فُقدَ من أجل الوطن، ليعود ثانية إلى ثراه.
وفي كل ضربة كف، يزداد إيماني بأننا نحن الجمهور عبارة عن "كومبارس" ليس فقط في فضاء المسرح وإنما في فضاء هذا الوطن؛ على الرغم من أن الجمهور لم يتأخر بتقديم كل ما بإمكانه من أجل الوطن، لكن لم نحافظ على كل من قدم من أجل الوطن... ولم نحافظ على الوطن... ولم نحافظ على ذاتنا من أعداء الوطن الذين يدّعون بأنهم حماة هذا الوطن.
مع آخر كف من رائدة، كان "الكومبارس" في حالة ضياع بعد أن اكتشفنا ذاتنا المتعرية من جديد، وقفنا جميعاً نصفق لها وكأننا في جحيم "دانتي" بالكوميديا الإلهية، وفجأة هبطت لنا رائدة من فوق خشبة المسرح وكأنها تقول أنتم الواقع الآن... أنتم الحقيقة.
ومع انتهاء التصفيق تأتيني رسالة إخبارية على الموبايل "شهيد برصاص الاحتلال قرب مستوطنة "عوفرا" برام الله بزعم محاولته تنفيذ طعن".