ضيق خيارات القيادة هو أهم علامات انسداد الأفق الفلسطيني؛ ويبدو أن الشعب الذي يُعد بالملايين لا يستطيع إنتاج 10 أشخاص مثلاً ليتنافسوا على القيادة و-لا أقول الرئاسة. وتراوح الأسماء المطروحة لقيادة المسيرة الفلسطينية الآن بين بضعة أسماء لا يخلق أيُّها شعوراً بالارتياح.
* * *
لا أقول "رئاسة"، لأن حركات التحرر لا يقودها رؤساء، وإنما قادة ثورات. وإذا كان أحد يصدق أن تكوين الحالة الفلسطينية الراهن هو نظام دولة برئيس ووزراء، فهو مغرم باعتناق الوهم. وإلى أن يقتنع الفلسطينيون بأنهم لم يصبحوا دولة ولم يتجاوزوا مرحلة حركة التحرر، فإنهم لن يخرجوا من المصيدة التي دخلوها بأقدامهم.
* * *
حركة التحرر الوطني الفلسطيني تحولت إلى تقمص شكل النظام العربي في أسوأ تجلياته، من دون أي شيء شبه بمقومات النظام. هناك أناس يتنافسون على السلطة أو يتشبثون بالسلطة، حتى أصبحت كلمة "سلطة" حاضرة بقوة في الخبرة الفلسطينية. وفي حين أن الفلسطينيين معظمهم منفيون، وبقيتهم محتلون، فإنهم قد يكونون أكثر أهل الأرض ضيقاً بالسلطات وأقلهم حاجة إلى سلطة إضافية.
السلطة تعني وجود أناس خاضعين لسلطة –هم فلسطينيو الداخل حالياً. وأبرز تجليات السلطة الآن، هي الجهاز الأمني ووجود سجون غير السجون العربية وغير سجون الاحتلال؛ سجون فلسطينية للفلسطينيين بسجانين فلسطينيين، وفيها "معتلقون سياسيون" فلسطينيون! وبذلك، أصبح الفلسطينيون تحت سلطات متراكبة، السلطة المحلية وسلطة الاحتلال. وفي الأصل، ينبغي أن يكون الشيء الوحيد الذي يُحاسب عليه الفلسطيني –باستثناء الجنايات المعروفة- هو الخيانة؛ العمل في خدمة العدو وضد مشروع مواطنيه، ومن الواضح أن هذا المفهوم أصبح مائعاً جداً في الحالة الفلسطينية. اختلط التعامل مع العدو بالعمل عنده. ويجب أن يكون المعيار واضحاً تقريباً: أي شيء يؤمّن العدو ويساعده على النوم ويجعل مشروعه سائراً بلا عقبات، هو عمل ضد الشعب الفلسطيني. نقطة.
* * *
ليست المواصفة الأساسية لقائد الشعب الفلسطيني أن يكون مليونيراً ورجل أعمال أو مؤسسة شخصية قائمة بذاتها. ولا ينبغي أن تكون شرعيته مضمونة بسبب قاعدته في حزبه أو موظفيه أو شركائه في مصلحة أو أيديولوجيا غير فكرة تحرير كافة الفلسطينيين. لكن الانطباع السائد مؤخراً، هو أن القيادة الفلسطينية –والبدائل المقترحة- هي نخبة أعمال ومناصب ومصالح. وأصبحت القيادة في الحالة الفلسطينية طريقاً سريعاً إلى الغنى المادي. أما صورة القائد الذي يعيش في الخندق –تحققاً أو مجازاً، فأصبحت من الماضي.
* * *
أحد أهم محددات ترشيح القيادة الفلسطينية الآن، هي أن يكون القائد –أو القادة- "مقبولين" لدى قادة العدو وحلفائهم. والـ"مقبول" هو الذي يكون مستعداً للتنازل عن أبجديات القضية الفلسطينية. لم يعد الشرط أن يكون القادة الفلسطينيون مقبولين عند شعبهم أولاً، على أساس موقفهم الظاهر والباطن من القضية الوطنية الحقيقية والتي لا يجب أن تكون خلافية. وسوف يقبل العدو أخيراً بالقادة من هذا النوع إذا كانوا البديل الوحيد المطروح، على أساس: "خُذ كل شيء أو اترك كل شيء"، وبحيث لا تجعل كيفيات عمل الحركة الوطنية الفلسطينية من الترك خياراً لأعداء الشعب الفلسطيني.
* * *
إحدى مشاكل القيادة الفلسطينية هي المكان. إذا كانت القيادة في الداخل فإنها ستكون تحت رحمة الاحتلال. وإذا كانت في المنفى، فستكون تحت رحمة البلد المضيف. كما تتيح الديناميات الراهنة تصرف العرب الآخرين في اختيار القائد الفلسطيني وفرض رؤاهم التسووية عليه. ربما يكون جزء من الحل في إعادة اختصاص تعيين القيادة الفلسطينية إلى الهيئات الفلسطينية الجامعة، مثل المجلس الوطني الفلسطيني، بعد تجديد المجلس بحيث يعيد إشراك الفلسطينيين في مختلف الأماكن من خلال ممثلين، وإسناد القيادة إلى مجموعة وليس شخصاً أو فئة، تنفذ سياسة غير فئوية.
* * *
لعل أوضح مظهر لانفصال "القيادة" عن الشعب الفلسطيني، هي الاستعداد المكشوف للتضحية بالشيء الأكثر أساسية في المشكلة الفلسطينية: حق العودة للاجئين الفلسطينيين -أي معظم الشعب. ولو سُئل فلسطينيو الشتات، لقال معظمهم إن قيادة بهذه المواصفات والاستعدادات لا تمثلهم. وإلى أن يستطيع الفلسطينيون ابتكار شيء يخلق الشعور بأن قيادتهم تمثلهم وتعمل بوضوح لأجلهم، فسيبقى الوضع الفلسطيني في حالة سقوط حر.
عن الغد الاردنية