يمر الجيش الإسرائيلي بمرحلة تغييرات جوهرية كبيرة بسبب ما يجري من تحولات في العالم وفي الإقليم. وقد ظهر هذا التغيير بوضوح في التعيينات الجديدة التي ترسم صورة هيئة الأركان المقبلة في السنوات القادمة. وكان جليا على وجه الخصوص تعيين الجنرال أفيف كوخافي نائبا لرئيس أركان الجيش ما اعتبره الكثيرون تأهيلا له لتولي هذا المنصب بعد عامين تقريبا.
وتنبع التغييرات في الجيش الإسرائيلي من تغيير المخاطر التي تواجهها الدولة العبرية. وكان الجيش قد بني في الأساس على قاعدة أنه جيش لدولة صغيرة تعيش في محيط معاد يحاول إبادتها. ولذلك ظهرت نظريات الضربات الاستباقية ونقل المعركة إلى أرض العدو والتركيز على البعد الاستخباري. وترافق مع ذلك لاحقا ظهور نظريات مثل «عقيدة بيغين» التي تقوم على منع العدو من امتلاك سلاح نووي.
ولكن الوضع الإقليمي تغير من أساسه بعد إبرام معاهدات الصلح مع الدول العربية وإبرام اتفاقيات أوسلو مع الفلسطينيين. فقد انتهى، وبالتدريج، خطر الجيوش العربية وبرز ما اعتبر خطر المقاومة وهو ما أسمته إسرائيل خطر القوى التي تملك مقدرات دولة. وتنظر إسرائيل اليوم إلى هذه القوى، ممثلة بشكل أساسي بـ «حزب الله» في الشمال و»حماس» في قطاع غزة وحتى «داعش» في سيناء وسوريا بوصفها الخطر الصاعد.
ويجري التركيز على هذه القوى بعد فترة انتقالية أكثرت فيها إسرائيل من الحديث عن الخطر النووي الإيراني ورفعت خلالها إيران إلى مرتبة الخطر الأول على الدولة العبرية. وجرت في القيادة الإسرائيلية جدالات طويلة حول ما إذا كان الخطر النووي الإيراني يشكل خطرا وجوديا مباشرا على إسرائيل أم لا. وفي الغالب، ورغم ميل رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو للتهويل والترهيب من هذا الخطر، هناك من رأى أنه ليس خطرا وجوديا. وقد أضعف الاتفاق النووي الإيراني مع الدول الغربية حجج إسرائل في هذا المجال وتقريبا اختفى أو يكاد الحديث عن هذا الخطر. وهنا برز من جديد ما يعتبر الخطر الأكبر حاليا وهو وجود المقاومة في الشمال والجنوب. ورغم أن أحدا في إسرائيل لا يزعم بأن وجود المقاومة يشكل بحد ذاته خطرا وجوديا إلا أن هذا الوجود مزعج ومكلف من كل النواحي. فهو يبقي على الصراع ويحول دون تحقيق هدف إسرائيل بالتطبيع. وهو أيضا يمنع تحقيق غاية إسرائيلية هامة وهي حرف الصراع عن جوهره وتحويله إلى صراع بين معتدلين ومتطرفين في المنطقة وربما أيضا بين سنة وشيعة.
ويلعب دورا هاما على هذا الصعيد إيمان الأغلبية الساحقة من الجمهور العربي بأن المقاومة وتركيزها على العدو الإسرائيلي يوفر أساسا صالحا للتغيير في موازين القوى لاحقا ويمثل بوصلة يمكن الاعتماد عليها في معرفة الطريق. وربما أن هذا بين أشد ما يخيف إسرائيل من المقاومة.
وفي كل حال من الواضح أن توجه الجيش الإسرائيلي الجديد هو نحو هيئة أركان شابة من ناحية ومتخصصة من ناحية أخرى. وتقريبا فإن السلاحين الاستراتيجيين، الجوي والبحري، يمتلكان نوعا من الاستقلال لأسبابهما الخاصة ما جعل التركيز على قوات المشاة. ولاحظ معلقون أن القوات المدرعة التي لعبت في الماضي أدوارا حاسمة في الحروب لم تعد تملك القيمة التي كانت لها. وهذا قاد إلى التركيز على الوحدات الخاصة عموما وعلى الوحدات التي تعتمد بشكل كبير على القدرات القتالية المستندة إلى معطيات استخبارية وتكنولوجية مميزة.
وكان التنافس حادا في الماضي بين ضباط المدرعات وضباط المظليين قبل أن يدخل ضباط «سييرت متكال» بوصفها وحدة النخبة الأهم في الجيش الإسرائيلي وبعدها وحدة «الكوماندو البحري» ثم فتح الباب على مصراعيه للتنافس بين وحدات كثيرة أخرى.
عموما ورغم التبريرات الجوهرية للتعيينات لم ينس معلقون إسرائيليون الإشارة إلى أنها «ضربة استباقية» لتقرير مراقب الدولة بشأن الحرب الأخيرة على غزة والتي أظهرت الكثير من مواضع الخلل ليس فقط في الأداء العملياتي وإنما كذلك في التحليل الاستراتيجي. وقد مس ذلك أداء المستويين السياسي والعسكري مع التركيز على القيادة العليا وعلى الاستخبارات. ولهذا السبب ثمة أهمية كبيرة لتوقيت الإعلان عن التعيينات الجديدة، والمراد منها التأثير في الصيغة النهائية لتقرير مراقب الدولة.
فاتهام رئيس الأركان السابق الجنرال بني غانتس ورئيس الاستخبارات في عهده، أفيف كوخافي بالتقصير في تقديم تحليل استراتيجي صائب للقيادة السياسية يبعد التهمة والمسؤولية عن الإخفاقات عن القيادة السياسية ويحملها للقيادة العسكرية. وربما أن هذا، أكثر من غيره، هو ما دفع رئيس الأركان الحالي للإقدام على خطوات يراد منها التوضيح بأن اتهام قائد الجيش السابق هو في الواقع اتهام للجيش بحكم مبدأ التواصل.
وعموما فإن الجيش الإسرائيلي رغبة منه في الحفاظ على حصته من الكعكة القومية ومن الهيبة يقف بشدة في مواجهة الاتهامات وهو لا يسمح حتى لمراقب الدولة بانتقاده. ويعمل الجيش الإسرائيلي وفق مبدأ محاولة انتقاد نفسه من ناحية ومعالجة أموره قبل أن يضطر للخضوع لانتقادات جهات من خارجه.
وأيا يكن الحال فإن تغيير التهديدات والمخاطر المحيطة وغياب خطر وحدة الصف العربي جراء الانقسامات الحادة كلها تجعل إسرائيل أقدر على احتمال مخاطر التجريب. وحاليا يجري التركيز على وضع قيادات شابة بهدف تأهيلها للمستقبل على أمل أن تكون أقدر على معالجة المستجدات برؤية مختلفة عن رؤية أصحاب الخبرة القدامى.