أدهشني أبو العبد الترقومي. إنه لا يشبه أبو العبد البيروتي، بريشة رسّام جريدة «النهار» بيار صادق. إنه يشبه، قليلاً، أبو العبد الفلسطيني، بريشة رسّام جريدة «الأيام» بهاء البخاري.
أدهشني أبو العبد الفطافطي، عصراً.. عندما ملأ حفيده (أو حفيد شقيقه أو شقيقته) كفّيه الفسيحتين، بأصابعهما الطويلة، بكومة من علب الثقاب. لماذا ليس علبة واحدة؟ لماذا ليس ولاعة غاز؟
أدهشني أبو العبد الترقومي الفطافطي، صباح الغد الباكر. سيكارته الهيشي الأبدية إما مطفأة بين شفتيه، أو مشتعلة بين أصابع يده. لهذا، إذاً، يحتاج «كومة» من عيدان الثقاب. شبّ وشاب على دخّان الهيشي. إذا لم يَمجّ سيكارته انطفأت.. وإذا هبّت الرّيح على التلّة -وهي نادراً ما تهدأ- أطفأت نار ثلاثة أو أربعة عيدان ثقاب.
أدهشتني عزبة الفطافطة، المجاورة لمعسكر ومستوطنة «تيلم»، أو أن المعسكر - المستوطنة «اندس» بين بلدة ترقوميا وعزبات أهلها. ترقوميا أوطأ من مستوطنة «تيلم»، وعزبة الفطافطة أعلى من المستوطنة. غمرني شعور استثنائي لأن تكون العزبة الفلسطينية أعلى من المستوطنة - المعسكر.
لا أعرف كيف يروون في المستوطنة - المعسكر، تاريخاً شفهياً لتجمّع 25 عائلة من يهود: المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا، ومصر، ولكنني تعلمت آية من آيات العشائرية والعائلية الفلسطينية في الأطراف الغربية لـ»جبل الخليل». هنا يروون لك تاريخاً شفهياً يعود لذيول غزوات القيسية واليمانية، أو يأخذونك الى تلّة أعلى من العزبة، وأقرب الى المستوطنة. على الصخر الأصم - الأجرد بقايا ألغاز حضارة رومانية.. وأطلال بيوت أتى عليها خراب الحروب القبلية. كل فلاّح هنا خبير آثار وجِرار عتيقة.
بين ترقوميا وتلّة مستوطنة / معسكر «تيلم»، وتلّة عزبة الفطافطة، و»التلّة الرومانية»، تدور حرب يهودية - فلسطينية تذكرك بحروب القيسية - اليمانية.. هذه كانت حرب أخوة في العروبة والاسلام.. وهذه تدور حرباً، يفترض، في الكتب وفي الأساطير، أنها بين «أولاد العم»؟!
بدأت حرب الفطافطة الترقوميين مع أولاد العم.. بيمين كاذبة ومغلّظة. ضابط إسرائيلي أقسم ثلاثاً بحياة النبي موسى، بأن الجنود سيغادرون تلّة أبو العبد فور أن تنتهي الانتفاضة الأولى، وأمر بصرف «أذن دخول» دائم لأبي العبد وأشقائه الثلاثة لدخول المستوطنة/ المعسكر وقتما يشاؤون لرعاية حقول أصلحها جدهم، وأشجار زرعها. إذنُ دخولٍ موقّع من قائد منطقة الضفة الغربية.
أبو العبد (82 سنة) وشقيقه أبو نزار، وشقيقاه الآخران، يضعون إذن الدخول بين دفتي بطاقة الهوية. شروط الانتفاضة الثانية ألغت تسهيلات الانتفاضة الأولى. أوراق الطابو في حرز حريز في بيوت ترقوميا، وإذن الدخول في حرز حريز داخل دفتي الهوية الشخصية.
«الجيران» اليهود المغاربة، من المغرب حتى مصر، تعلّموا العربية الفلسطينية، والناس هنا تعلّموا ما تيسّر من العبرية -حسب الأجيال- وأبو العبد تعلّم درس عمره: يحلفون بالنبي موسى ثلاثاً.. ويحنثون؟ فلماذا يصدق «مختار» مستوطنة «تيلم»، الذي أبلغه، قبل أيام، أنهم سيرحلون، إلى خلف الجدار، خلال عامين؟!
«الطريق الآمن» الى «معبر ترقوميا» يشق عِزَبَ الفطافطة. إنه ليس آمناً منذ أن كمن مستوطنون مسلحون متطرفون (تبرأ منهم مختار مستوطنة تيلم) لفلاحين عائدين من عرس.. وحصدوا منهم سبعة. وقعت هذه الجريمة الجماعية قبل سنتين.
بعد السابعة مساءً لا يمرّ القرويون من البوابة. قبل السادسة صباحاً لا يمرّون من البوابة. اليهود يمرّون على مدار الساعة في «الشارع الآمن». نادراً ما يتوقفون لشراء أشهى التين والعنب البعلي من بسطات الأولاد على الشارع. سفرجل أيضاً. تفاح أيضاً. دراقيات وخوخيات أيضاً. خمس حرثات سنوياً (كما أقسم أبو نزار، شقيق أبو العبد) سماد عضوي فقط. زراعة بعلية (بالتأكيد، فمن أين الماء؟).. صديقي خالد درويش، صهر أبو نزار، قال: ينقصكم الكرز؟ أبو نزار أجاب: إلاّ الكرز فهو «مطموع فيه»، إنه يطرح ثماره في نيسان، ونحن نصيّف في «العزبة» من منتصف حزيران. الأولاد و»الحرامية» لا يتركون حبّة كرز على غصن أو شجرة. الجميع شبعان من التين والعنب.
على ظهور الحمير، وعلى أكتاف النساء، وأيدي الأولاد ينقلون الماء من الينابيع، أو من «آبار الجمع». بأيديهم يزرعون السفوح ويبنون السلاسل والجدران الاستنادية.. وبشطارة الخلايلة يؤجرون الجرود لشركات المقالع الحجرية، على أن تردم المقالع بتربة حمراء لتوسيع الكروم وبساتين الثمار.
* * *
لعبنا الورق في ضوء «لوكس».. وفي الليل منعتنا أضواء المستوطنين من رؤية النجوم في السماء. كان القمر في التربيع الأخير.. وكان شاحباً. ماذا إذا جنّ جنون مستوطن مسلّح آخر؟
يقول أبو العبد: «وحياة محمد سأصلي صلاة شكر عندما يرحل اليهود». صدقوني: إنه يصعد التلّة دون أن تتقطع أنفاسه.
للطوفان ارتداداته .. رانيا العبد الله
17 أكتوبر 2023