الوقت صعب، الطقس مدلهم. في أجواء غير مواتية للتقدم بنقد ذاتي، تعرض «رائدة طه» مسرحيتها المؤثرة، «ألاقي زيَّك فين يا علي».
ابنة الشهيد «علي طه»، تكسر صمتاً تَخَمَّر طويلاً، اكتنز جوفها باختزانات ذاكرة مُثقلة، فوُلِدَ نصٌ يعبر عن مخاض موجع لها، جارح لنا. في كل الأحوال؛ عبَّرت المسرحية عن حقيقة وواقع، عايشتهما؛ الكاتبة - الممثلة.
ينتصب استدراك ما، هل من وقت أفضل للمراجعة، أخاطب من حولي، قطعاً لا، إلا في مخيلة من يرون أن ممارسته قد تذهب نحو الحل، المراجعة والنقد مهجوران؛ في تراث الحركة الوطنية، لكن وطأة الواقع، يطيح بالتحفظ، ولم يعد من مجال للقمع أو السيطرة!
في المسرحية، «ألاقي زيَّك فين يا علي»، عملان في إطار عمل واحد. «مونودراما»؛ عن مجريات حياة عائلة الشهيد «علي طه»، بطل عملية خطف الطائرة «سابينا» إلى مطار اللد في العام 1972، المنفذة من قبل مجموعة من المناضلات والمناضلين؛ تحت قيادة الشهيد «علي».
بطلات العمل: ابنة الشهيد وأخته وزوجته. أبطاله: حثالات بلا أسماء، يتكررون في جميع الثورات. إنهم من يستغلون طهرانية الغياب، لاستغلال زوجة وبنات الشهيد. أصحاب مِخيال مريض وغبي، اعتبار عائلة الشهيد لقمة سائغة، حالة مارقة من الانكشاف والهشاشة والفراغ واختلال التوازن، رغم خيمة الحماية التي منحها القائد العام للعائلة، الطفلة التي كبرت وتجرعت التجربة حتى الامتلاء.
تضعنا الكاتبة بإسراف أمام صورتين متجاورتين في العمل، سواد حالك وبياض ناصع، لم يكونا ليتجاوران أو يندغمان معاً، كان لا بد من فصلهما عن بعض، خشية من انتصار أحدهما على الأخرى؛ في الزمن الرديء. لقد كان لدينا نموذج نبيل، أو اعتقدنا أن لدينا ذلك الفصل الجميل، هل نريد إنزاله من برجه العالي، تكسيره وتشريحه، الكشف عن سوأته.
الصورة السوداء تلتهم بياض المسرحية، التراجع النضالي والقيمي لا يفسحان الطريق لسواهما، الجانب المضيء الذي سلطت عليه المسرحية الأنظار وهي محقة بذلك. لكن الأمر ليس إرادوياً، فقد بقي الوحْل والتخبط والضياع مسيطراً على فضاء المسرح، لأن الواقع المعاش يفتح ذراعيه بحفاوة لاستقبال الرداءة، وليس من رؤية للتغيير، والثورة على الواقع ليست بوارد أحد.
أخذتنا المسرحية إلى «شيزوفرينيا» فلسطينية، الثنائيات: العار والمجد، الخيانة والإخلاص، الزهد والجشع، الحرمان والإفساد. ثنائيات المسرحية الواقعية. محاولات استغلال أسرة الشهيد وحرفها على يد من يدعون الثورية من جانب! ونضال الأسرة من أجل تحرير جسد شهيدها ودفنه في أرضه، من جانب آخر.
البوح، بدا غريباً بعض الشيء، يحبس الأنفاس في الصدور، مشهد غرائبي، في مرحلة لا تتوقف عن فرز المساخر والفضائح. يطرح التاريخ سؤاله: أين التاريخ الذي غنينا له وتغنينا به، أين هو ذلك الزمن الجميل، لقد لطخته المسرحية.. الشهداء لم يعرفوا الاستسلام في حياتهم، لِمَ ندفع غيرهم إلى الاستسلام قبل استشهادهم؟
لكن ما دام العمل قد خرج للنور، عن قلب وعقل ابنة الشهيد، فلا يمكن له سوى التعبير عن حالة موضوعية وحقيقية، لا نتنكر لها أو ننكرها، لأنها تعبِّر عن كتلة المشاعر النازفة، بعد أن استوعبت ونضجت الكاتبة لتفاصيلها، جاهزية لاتخاذ موقف إزاءها. فتباشر الذاكرة مخاضها، يضع الرحم حمله الثقيل: وليد شوهه، المال والخيانة والانتهازية والامتيازات.
هكذا تشطرنا المسرحية، تقسمنا إلى نصفين. تاركة أثرين، ترسل رسالتين، تحشرنا في خندقين. تسجل مآثرنا فترفع رأسنا للسماء حيناً، ومن ثم تُسجل عارَنا، فتتهشم الرؤوس المتعالية. وتبقى الثنائية، خطاب الهزيمة المتكئ على خطاب الصمود، إضاعة الحدود بينهما..
في داخل رائدة، يسكن شهيد وفقْد وحروب، وتداعيات متتالية. في رأسها؛ غرف تعاقبت عليها الأيام، ليال ونهارات، فصول وطقوس ودموع. في قلبها، ترقب وانكفاء وعتاب وأسرار. ثمة حملة تشنها ابنة الشهيد باتجاهات متعاكسة، في توقيت لا يتناسب مع النقد، ما يزيد اليأس والإحباط فابتعاد الأمل. كأنها تبصق على التاريخ الجميل لصالح الزمن الذي لم يجد وصفاً له بعد.
فأي نقدٍ وأي دروس تُستَخلص، سوى إضافة شهادة، أقر بصدقيتها، لكني أختلف على جدواها وتحليلها وتحلُّلِها من المسؤولية العامة في مرحلة، أحد متطلباتها متصل ببعث القيم النبيلة.
الحديث عن قطاع واسع كقطاع الشهداء لا يمكن الحياد اتجاهه، الحبل دائماً على الجرار. حديث الشهداء لا يمر دون طرح الأسئلة المخيفة. هل يخلي الشهيد بيته أم مكانه النضالي؟ هل مكتوب على البعض التضحية، والبعض الآخر مكتوب لهم الإرث كاملاً مكتملاً! هذه الأسئلة مرهونة ومرتبطة بأسئلة أخرى مطروحة على الكل الوطني.
لقد طرحت المسرحية ظاهرة الاستغلال والابتزاز على بساط البحث، لم تحدد ما إذا كانت عامة وشاملة؟ أم أنها محصورة بحالات متنحية وفردية؟ لماذا سُمِح بوجودها؟ ومن غطى عليها؟
الكشف عن آخر مستجدات الوضع الصحي للأسير علي الحروب
30 سبتمبر 2023