قبل العام 2014، كنّا إذا رغبنا في وصف شخص متطرف، أو تنظيم متشدد وصفا دقيقا شاملا كنا نحتاج استخدام عدد كبير من المفردات: متعصب، متزمت، عنيف، إرهابي، إجرامي، تكفيري، إقصائي، انتحاري، ظلامي، عدمي، لاإنساني، كاره للمرأة، عدو للحياة والفرح والجمال، عديم الرحمة، متحجر القلب، مغلق التفكير... اليوم، بوسعنا استخدام مفردة واحدة تغني عن كل هذه الأوصاف، مفردة تلخص وتجمع كل الصفات السلبية: "داعشي".. وهذه ربما إحدى إنجازات "داعش"..
أقامت "داعش" في الموصل سنتين ثقيلتين، ومثلما ظهرت فجأة ستخرج فجأة، وبسرعة غير متوقعة.. لكنها ستترك جرحا غائرا سيحتاج سنين طويلة حتى يلتئم.. وذكريات مريرة، من الصعب أن تمحوها الأيام.
منذ أن اجتاحت قطعان الدواعش أرض الموصل، حتى أخذت تعيث فيها خرابا.. جعلت أهلها يعيشون أسوأ مخاوفهم.. سلبتهم أمنهم وحريتهم وكرامتهم، قسمتهم حسب درجات إيمانهم، أخرجت المسيحيين من المدينة، بعد أن سلبتهم بيوتهم وأموالهم، ثم طردتهم إلى الصحراء.. ثم اعتدت على الازيديين، فقتلت رجالهم، وسبت نساءهم وأطفالهم.. ومن تمكن من الفرار لم يجد أمامه سوى البراري ليبيت في العراء.. اقترفت واحدة من أسوأ عمليات التطهير العرقي والهندسة الديمغرافية..
أعادت "داعش" زمن الغنائم والجزية والسبي والرق.. وافتتحت أسواق النخاسة.. وجعلتنا نشاهد بثا مباشرا لمقاطع حية من زمن الجاهلية والغزوات، ولكن بأدوات حديثة.. ارتكبت عشرات المجازر التي راح ضحيتها عشرات الآلاف ومنهم نساء وأطفال.. اخترعت أساليب جديدة في الإعدامات حرقاً، وغرقا، وسحلاً، وتفتيتا، وغليا بالماء، وإذابة بالحوامض، ورميا عن شواهق العمارات.. والمثير للدهشة أنها وثقت وصورت كل إعداماتها ومذابحها..
هدمت كل الأضرحة والمقامات، وحطمت الآثار ونهبت المتاحف، ودمرت كل التحف الفنية والمعمارية التي مثلت تاريخ وحضارة العراق، حرقت مكتبة الموصل، بكل مخطوطاتها ولفائفها وكتبها الثمينة.. وأبقت على كتب بن تيمية.. خربت وهدمت مدنا وبلدات بناها أهلها عبر آلاف السنين..
نشرت الخوف والذعر أينما حلت، وأينما هددت بأن تحل، اقترن اسمها بالإرهاب، والقتل، والتعذيب.. وصارت كابوسا مرعبا.. ليس للأطفال وحسب، بل ولكل العالم.. حتى صار (وللأسف) مصطلح "الدولة الإسلامية" في أذهان الناس (مسلمين وغير مسلمين) كابوسا بحد ذاته.. وشوهت كل الصور الجميلة المعروفة عن الإسلام.. بل وجعلت بغيّها العالم يرى في الإسلام والإرهاب وجهين لعملة واحدة..
اقتصر تطبيقها "للشريعة" على قطع الأيدي، وجلد الناس في الأماكن العامة، والرجم، والإعدامات الفظيعة، وفرض النقاب على النساء، واللحى على الرجال، ونشر التخلف والجهل، وتحريم كل أشكال الفرح والاحتفالات، وتجريم الفنون والآداب..
زعمت أنها تمثل "السنَّة"، وتدافع عنهم، وفي حقيقة الأمر ثلاثة أرباع ضحاياها من "السنَّة".. ليست "داعش" من أسَّس للطائفية في العراق وسورية، ولا هي أول من نشرتها؛ لكنها عززتها، وأذكت نيرانها..
استعملتها دول المنطقة بالتناوب: إيران، تركيا، إسرائيل، أميركا، نظام الأسد، نظام المالكي، روسية.. لتكريس الطائفية، وتشويه الثورة السورية وتأخير انتصارها، وإجهاض أي محاولة شعبية عراقية للنهوض ضد الحكومة، أو ضد الفساد.. لتهيئة مخططات التقسيم وتعزيز فرص نجاحها.. لإدامة مسلسل العنف والتقتيل، وتخريب العراق وسورية، وتدمير مستقبلهما..
صحيح أن جميع أطراف الصراع في المنطقة أجرمت، وارتكبت مذابح وأعمال تطهير عرقي.. لكن "داعش" تفوقت عليها بالعدد والنوعية.. وخلافا للآخرين كانت تتباهى بجرائمها (لنشر الرعب) وتوثقها بأحدث تقنيات التصوير والإخراج، والفرق الآخر أنها كانت تفتتح عمليات الإعدام والقتل الوحشي بآيات من القرآن الكريم، ثم تتلو بيانا محكم اللغة، يستند إلى فتاوى فقهية مستمدة من كتب التراث.. بمعنى أن "داعش" تدعي أنها تمثل الإسلام الحقيقي بصورته الأولية.. وهذا أخطر ما في الموضوع.. لذلك، فإن كل الذين آمنوا بها، واتبعوها، والتحقوا بتنظيمها من مختلف أنحاء العالم هم من الجهلة وشذاذ الآفاق، والمغامرين، الذين تتملكهم نزعات السادية والعنف والإجرام.. بينما أدانها كل العقلاء من مسلمين وغير مسلمين..
"داعش" مثّلت مرحلة بائسة ومخيفة من تاريخ العراق وسورية، أتت نتاج فساد النظام، والقمع السلطوي، وبرعاية الاحتلال الأميركي، في زمن الوباء الطائفي.. حتى الحرب عليها جاءت في سياق الفساد والطائفية والتوحش.. فكل الأطراف التي شنت عليها الحرب، وأرادت إخراجها من الموصل لا تقل عنها إجراما وسوءاً.. في الأيام الأخيرة شهدنا مناظر مروعة من أشكال التعذيب والإعدامات من قبل متطرفين من الحشد الشعبي، وحتى من الجيش العراقي نفسه.. مشاهد تدل على مستوى الانحطاط الذي وصلنا إليه في زمن "داعش"؛ زمن الطائفية والغلو والتطرف..
وكما أتت في سياق منظومة الفساد والطائفية؛ فإن رحيلها سيؤسس لمرحلة جديدة من الاقتتال الداخلي والإرهاب.. ربما أكثر بؤسا.. "داعش" لعنة حلت على المنطقة.. لن نتخلص منها في المدى المنظور..
ستخرج "داعش" كليا من المنطقة، ولكن بعد أن تخلف وراءها أكواما من الخراب والجماجم والأشلاء..
ختاما؛ أغلب الخطاب الإعلامي يتحدث عن "داعش" بصيغة المذكر، هذه ليست مهمة، لأن "داعش" تتخذ عشرات الأسماء الأخرى: النصرة، القاعدة، جيش الإسلام، ...إلخ.. داعش فكر ونهج متطرف.. وليس مجرد تنظيم صنعته أميركا، أو إيران.. أو أي كان..
على أمل أن تتعلم هذه الأمة درسا من تجاربها البائسة والدموية.