كتب : حميد طولست جرت العادة ، في البلدان المتقدمة ، أن ما تصنع القواعد الجماهرية ، الرأي العام ، وتتحكم في صياغته ، وبلورته حسب مصالحها ، لكنها في البلدان التي تسير على رأسها ، فإن النخب السياسية المتكيفة مع الواقع أيا كانت مرارته ، هي التي تصنع "الرأي العام" حسب ما تسعى به إلى توجيه الجماهير نحو صورة معينة صحيحة كانت أم غائمة أو مؤدلجة ، تؤثير على توجهاتها ضمانا لمصالح النخب ، حسب انتهازيتها -التي هي صفة ظاهرة فيها وليس متنحية - غير آبهة لمعاناة تلك الجماهير، التي يزد طينها بلة ، غياب النخب الثقافية أو تقاعسها عن القيام بدورها التنويري ، الذي هو نابع ربما من جبنها التقليدي أو من خوفها على مصالحها المتشابكة مع النخب السياسية بشكل أو بأخر ..
لكن المسألة تبدو معكوسة في بعض المجتمعات ، والتي عودتنا ألا يهتم بمعالجة قضاياهم المرتبطة أساسا بما تعرفه أحوالهم وأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، من فقر وبطالة وإجرام وتشغيل الخادمات واغتصاب الأطفال والنساء ، والتي يرجع السواد الأعظم منهم أسبابها ومسبباتها ، مستسلمين ، للأقدار والعدو الخارجي المكون من الظواهر الطبيعية وعفاريتها وتماسيحها غير المرئية ، التي تلقى عليها تبعات ما يواجهوه من صعوبات العيش ، ويحملونها وزار انحدارهم وتخلفهم وفشلهم .
مناسبة هذا الكلام ، أنني فوجئت مؤخرا ، -خلال زيارتي لبعض الأهل والأصدقاء الذين لا زالوا متشبثين بالسكن في حينا الشعبي فاس الجديد - واندهشت كثيرا من انشغال شرائح واسعة من ساكنته ، بمستجد احتل صدارة أحاديث رجاله ونسائه ، صغيرهم وكبيرهم ، ، وأثار بين متعلمهم ومثقفهم ، جدلا واسعا وشديدا ، ودفع بالكثير منهم لاتخاذ ردود أفعال قوية ، تناقلتها أحاديث شوارع الحي المكتظة ، ومقاهيه الشعبية العامرة ، وواكبت صخبها المنتديات وصالونات الحلاقة والحمامات ، وأذكتها الصحف المكتوبة والالكترونية مواقع التواصل الاجتماعي المحلية والوطنية .. والغريب في أمر ذاك المستجد الذي استأثر باهتمام كل تلك الفئات المشغولة على الدوام بكسرة الخبز ، أنه لم يكن من القضايا الحيوية المتعلقة بحياة العباد ورخائها أو شقائها ، ولا بتقدم البلاد أو تأخرها ، ولا يهتم بأوجاعهم الاجتماعية والسياسية ، ولا ينشغل بأحوالهم الاقتصادية من تضخم ونسبة النمو ، بل كان من القضايا المتعلقة بعالم الفن والنجوم والمشاهير وما عرفته ساحة الأغاني من جديد الذي طرح مؤخرا كأغنية "عطيني صاكي " للداودية ، والتي قابلها من يعرف في الفن ومن لا يعرف من ساكنة الحي ، بإجماع غريب -ليس من طباعه- تصدي خلاله للأغنية على أنها سافلة ومفسدة للأخلاق ، والأغرب في الأمر أن إجابة من قابلتهم صدفة أو تعمدت مقابلتهم عن رأيهم في لأغنية ، كانت في غالبيتها ، واحدة ، وموحدة ولا تختلف في جوهرها عن الإجابة الهاتفية التي خص بها الشيخ عبد الباري الزمزمي، رئيس الجمعية المغربية للدراسات والبحوث في فقه النوازل، موقع "الجريدة 24" : "إن أغنية زينة الداودية عبارة عن أغنية ساقطة شأنها شأن باقي الأغاني الشعبية، مضيفا أنه لم يستمع إلى كلماتها، ولكن هناك من نقل له محتواها وتبين له أنها تدعو إلى الفساد وأنها هابطة بزاف إلى مستوى منحط".
وعند محاولتنا تحليل هذه الظاهرة ، سنجد وبسهولة كبيرة أنها ناتجة عما يطلق عليه في علم الاجتماع "عقلية القطيع " التي تشربها إنسان حينا الشعبي ، كما باقي الأحياء الأخرى على الصعيد الوطني ، مند طفولته تشرباً تلقائياً ، وتشكلت بها عقليته ، وتقولبت بها عواطفه ، وصيغت بها ذاته ، وتحددت بها شخصيته واهتماماته ، وأصبح لا يرى إلا بها ، ولا يقيس ولا يحكم إلا من خلالها ، ويظل مغتبطاً بها طول عمره لا يحاول الانفكاك عنها ، مستميتاً في الدفاع عنها ، مقتنعاً بأنها هي عين الصح والحق والعقل والنقاء ، مهما كان سخفُها وبعدها عن الحق ، ومهما كانت غارقة في الوهم والخرافة ومشحونة بالاضطراب والاختلاط ..
ما يعنى أن إنسان حينا ، كائن يبرمج بسهولة ، كما هو حال الإنسان المغربي عامة ، يمتص الثقافة السائدة وينساق تلقائياً وراء التقليد والمحاكاة ، ويجتر ما تجتره الجموع من معارف وأفكار ورؤى بشكل عفوي ، ويمتزج معها في انسياب عاطفي ، دون فهم أو وعي لخطورة أثرها على سلوكه ، وذلك لتشربه فحوى الأمثال الشعبية : دير ما دار جارك ، أو حول باب دارك والمصل :" دير راسك بين الروس وقل قطاع الروس" التي عايشها معايشة حميمة حتى أصبحت من مسلماته الذهنية والعاطفية ، وغدت صفة طبيعة بشرية تلقائية له وللبسطاء من عامة الشعب والتي برع الشاعر الجاهلي "دريد بن الصمة" في وصفها بقوله:
هل أنا إلا من غزية إن غوت غويت، وإن ترشد غزية أرشد .