استباحة العالم العربي تدق أجراساً تنبه الجميع إلى ضرورة وضع حد للكارثة.
(1)
من أخبار الأسبوع الماضي أن روسيا أكدت رسميا أنها بصدد استئناف الضربات الجوية حول حلب. ونقلت وكالة «إنترفاكس» عن مصدر في وزارة الدفاع الروسية قوله إن غواصات تابعة لـ «حلف شمال الأطلسي» تعقبت مجموعتها القتالية في البحر المتوسط، وأن سفنا حربية روسية طاردت غواصة هولندية قامت بمناورات خطيرة بالقرب منها. وكانت موسكو قد حشدت مجموعة قتالية كبيرة في البحر المتوسط تضم حاملة الطائرات الوحيدة لديها بهدف دعم حملتها الجوية في سوريا.
خلال الأسبوع ذاته بثت وكالة «رويترز» تقريرا عن المرتزقة الروس الذين يقاتلون في سوريا لحساب نظام الرئيس الأسد. وقالت إن هؤلاء المرتزقة تجندهم شركة خاصة، وينقلون إلى سوريا على متن طائــرات عســكرية روسيــة تهبط في قواعد سوريا، وإنهــم يلعــبون دورا أهم بكثير في القتال عــلى الأرض من الــدور الذي يقــول الكرملين إن الجيش النــظامي الروسي يقــوم به في سوريا.
في نشرة أخبار الأسبوع أيضا أن بريطانيا أرسلت مدمرة عسكرية متطورة إلى السواحل اليمنية لمواجهة التهديدات التي تواجه الملاحة الدولية في المنطقة هناك، خصوصا في باب المندب. أذاعت الخبر صحيفة «التايمز» التي ذكرت أن أكثر المدمرات البريطانية تطورا (إم إتش إس داينغ) ستقوم بحماية المصالح البريطانية في المنطقة من الصواريخ الإيرانية. وستشارك في عمليات عسكرية مع التحالف الدولي لمكافحة «داعش» في وقت لاحق من الشهر الحالي.
في النشرة ذاتها أن لقاء استغرق 4 ساعات ونصف الساعة عقد في أنقرة بين رئيس هيئة الأركان التركي خلوصي أكار ونظيره الأميركي جوزيف دانفورد (هو الثاني بينهما في أقل من شهر) تم فيه تعزيز التنسيق القائم بين تركيا والتحالف الدولي الذي يستهدف القضاء على «داعش». وصرح وانفورد بعد اللقاء أنه اتفق مع الأتراك على كيفية تخليص الرقة من «داعش»، وطريقة إدارة المحافظة بعد تحريرها.
في ذيل النشرة خبر عن تعزيز القوات الأميركية في العراق استعداداً لحسم معركة الموصل، وآخر عن تسرب تسجيل لإحدى الطائرات العسكرية الأميركية مع إحدى القواعد العسكرية في ليبيا أوصى باشتراك الأميركيين في الصراع الدائر هناك لمصلحة الفريق حفتر، الذي تدير أنشطته العسكرية غرفة عمليات يشرف عليها الفرنسيون.
(2)
خلاصة النشرة أن الجميع يتحركون في الفضاء العربي ويرتبون مستقبل الأمة في غياب شبه كامل لأي دور عربي. للدقة فإن ذلك الدور الأخير بات مقصوراً على الحروب الأهلية في داخل كل قطر عربي، أو بين التحالفات المتباينة في المحيط العربي ذلك أن العرب يحاربون بعضهم البعض في سوريا والعراق واليمن وليبيا ولبنان، كما أنهم يتحاربون داخل كل قطر في صراع الهويات الطائفية والعرقية والقبلية فضلا عن السياسية.
يعيد المشهد إلى الأذهان وضعاً أسوأ مما كانت عليه المنطقة في أعقاب الحربين العالميتين، حين ظهر بعد الحرب الأولى نظام الانتداب الذي قررته عصبة الأمم، وهو الذي تطور إلى نظام الوصاية في أعقاب الحرب الثانية. أقول أسوأ لأن شعوب المنطقة كانت تحت الاحتلال آنذاك، ومن ثم فقد كان العدو المتمثل في سلطة الاحتلال واضحاً. وكان الاحتشاد في مواجهته مبررا ومطلوباً. إلا أن الوضع الراهن قلب الآية رأسا على عقب، إذ أصبح الاحتلال مرغوبا وصار الاقتتال داخل البيت العربي الكبير من أبرز سمات المرحلة.
الرمز الواضح الدال على ذلك جسدته واقعة الاحتفال الرسمي ــ وسط صمت عربي مطبق ــ بإقامة قاعدة عسكرية بريطانية دائمة في البحرين العام 2014، أي بعد 43 عاما من إغلاق القاعدة البحرية البريطانية (في العام 1971)، وهو ما اعتبر إعلانا عن أفول مرحلة الاستعمار التقليدي. إذ سمح الاتفاق الذي وقعه وزيرا الخارجية في البلدين بعودة البحرية البريطانية إلى الخليج في القاعدة الضخمة. على الرغم من أن ثمة قاعدة أميركية في البحرين تتمركز فيها قيادة الأسطول الخامس، وأن فرنسا أقامت في دولة الإمارات أول قاعدة عسكرية لها خارج أفريقيا، كما أن القواعد الأميركية منتشرة في أنحاء الخليج، إلا أن الاحتفال الرسمي بالقاعدة البريطانية في البحرين كانت له دلالة متميزة، خاصة إذا علمنا أن البحرين قامت بدفع 80 في المئة من تكلفة المشروع التي بلغت 23 مليون دولار. ذلك أن الاتفاق اعتبر انتقالا من عصر مقاومة الاستعمار الغربي الذي بلغ ذروته في منتصف القرن العشرين، إلى عصر التصالح معه والترحيب به في بدايات القرن الواحد والعشرين.
(3)
ثمة حجة تقليدية تساق في معرض تبرير الوهن الذي أصاب العالم العربي، تتلخص في أن الغرب الطامع في المنطقة سواء لموقعها الاستراتيجي طورا أو لثروتها ونفطها في طور آخر، لم يرد لها أن تنهض وحرص على إضعافها طول الوقت. وهي مقولة صحيحة نسبيا، تؤيدها تجربة الدول الكبرى مع محمد علي باشا والي مصر وحاكمها في القرن التاسع عشر. ذلك أن الإصلاحات التي قام بها في مختلف المجالات خصوصا العسكرية، أزعجت تلك القوى آنذاك، فتم تدمير أسطوله من ناحية وأرغم على تحجيم قوته والخضوع للسلطان العثماني من ناحية أخرى، وتم ذلك في العام 1840 بمقتضى معاهدة لندن (وقعتها إنكلترا وفرنسا وروسيا والنمسا وبروسيا). آنذاك حوصرت السواحل المصرية وألزم بإخلاء كريت والحجاز وأضنة، ومن أهم ما نصت عليه المعاهدة أنها اعتبرت جيشه جزءاً من الجيش العثماني، وفرضت عليه ألا ينشئ سفنا حربية إلا بموافقة السلطان. وهددت باستخدام القوة إذا لم يقبل بذلك.
برغم أن المقولة صحيحة من الناحية التاريخية، فإنه يعيبها أنها تلغي دور الإرادة الوطنية، وتسلم بأن المصير يصنعه الآخرون ويقررونه. ذلك أن القوى الكبرى تبنت موقفا يخدم مصالحها، ولا يتوقع منها أن تسهم في النهوض بالأقطار التي احتلتها. وما فعلته تلك القوى مع محمد علي في مصر تكرر مع الهند والصين مثلا. إذ في العام نفسه الذي أبرمت فيه «معاهدة لندن» (العام 1840) كانت بريطانيا تشن على الصين حرب الأفيون التي استهدفت تركيعها. وهي الحرب الشرسة التي وصفها المؤرخ البريطاني توماس أرنولد بقوله إنه لم يحدث في التاريخ أن شنت دولة على أخرى مثل ذلك القدر من الظلم والخسة الذي أنزلته بريطانيا بحق الصينيين. أما فظائع البريطانيين في الهند فهي لا تعد ولا تحصى. مع ذلك فقد نهض البلدان على النحو الذي نشهده. بعدما توافرت لهما الإرادة الوطنية التي حققت الطموح المنشود.
(4)
في تحرير الواقع العربي الراهن وتفسير الاستباحة التي يعاني منها العالم العربي، فإننا لا نستطيع أن نشير إذن إلى «المعامل الاستعماري» الذي تحدث عنه مالك بن نبي في كتابه «شروط النهضة»، وإن كنا نرى وجاهة في استخدام مصطلح «القابلية للاستعمار» الذي نحته وأطلقه قبل أكثر من ستين عاما.
إلا أننا نجد في كتاب «مفهوم الدولة» للمفكر المغربي عبدالله العروي إضاءات تساعدنا على تشخيص الأزمة التي نواجهها. ذلك أنه أشار إلى أن العالم العربي أقام في مرحلة ما بعد الاستقلال الدولة السلطانية وليس الدولة الديموقراطية، واجتمعت في الدولة الجديدة صفات التسلط والقهر والسطو والاستغلال، واستشهد في هذا السياق بمقولة المؤرخ والباحث التونسي هشام جعيط التي قرر فيها أن الدولة العربية الحديثة ما زالت لا عقلانية واهنة، وبالتالي فهي عنيفة ومرتكزة على العصبيات والعلاقات العشائرية. تحدث العروي أيضا عن «الدولة الإيجابية» التي تكون في خدمة المجتمع، مشيرا إلى أن التركيز على تقوية الدولة باستمرار دليل على أنها ضعيفة باستمرار، معتبرا أن المحك الحقيقي لصلابة أي دولة يكمن في علاقتها بالخارج. استشهد في ذلك بمقولة هيغل التي قرر فيها أن ألمانيا لم تكن موجودة كدولة في بداية القرن الماضي، لأن صوتها لم يكن مسموعا في الجوقة الأوروبية.
أضيف إلى ما سبق أن العالم العربي في مرحلة ما بعد الاستعمار أقام أنظمة لا دولا. ذلك أن الدولة في المفهوم القانوني هي ظاهرة اجتماعية نشأت بمقتضاها كيانات ذات سيادة تعيش في ظلها مجموعات من الناس، يخضــعون لنظام سياسي يدير شأنها العام، وهو ما يعنــى أن النظام السياسي هو أحد عناصر الدولة وليس كلها. وهو ليس الحكومة وحدها ولكن إدارة الدولة تتم من خلال المؤسسات الموازية المستقلة ومنظمات المجتمع المدني.
ما حدث في العالم العربي أن الدولة اختُزلت في النظام الذي همّش المجتمع وفصل القانون على النحو الذي يناسبه. واعتمد في إدارته للشأن العام على أجهزة الشرطة والجيش والمحاكم والجباية بما يعني أننا أقمنا شكل الدولة من دون وظيفتها في خدمة المجتمع وإقامة العدل. وعندما صارت كذلك فإنها أصبحت أقرب إلى الدولة الفاسدة كما يقول العروي. أفضى بنا ذلك إلى الوضع المختل الذي صرنا إليه.
وهو ما لخصه الكاتب السوري موريس عايق في مقالة نشرت تحت عنوان: إرث الطغيان: من القابلية للاستعمار إلى الحاجة إليه («الحياة» 10/14) إذ ختمه بقوله إنه بفضل الطغيان الذي استثمر اسوأ ما فينا، فإننا لم نعد قادرين على الحوار والاتفاق في ما بيننا وعاجزين عن حل خلافاتنا، فصار من الضروري انتزاع القرار من أيديــنا ووضعه في يد خارجية تملك قوة الإلزام والمعاقبة، ما يعنى التخلي عن الكثير من حقوقنا وما نعتبره جزءا من سيادتنا. من ثم فإن إرث الطغيان لم يجعلنا فقط قابلين للاستعمار، ولكن في حاجة إليه لوقف المذبحة ــ والله أعلم.
عن السفير