سأتجاهل كل الشعارات الانتخابية التي أعلنها الرئيس الأمريكي المنتخب ترامب، فهي شبيهة بالشعارات الانتخابية التي أطلقها الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما الذي ملأ الدنيا عدلاً كلامياً، ووعد بالكثير على المستويين المحلي والدولي، لكنه عندما دخل البيت الأبيض، وجد صعوبة كبيرة في المرور في دهاليز النظام الأمريكي، فتراجع لدرجة أن سواده بات ناصعاً، وبياض وعوده بات فاحماً. فلم يفِ بأي وعد أو ينفذ أي شعار باستثناء انهماكه في حل الأزمة المالية العقارية. أما فيما يخص العالم فإن النفوذ الأمريكي تراجع كثيراً، فخرج من العراق بعد أن سلمه لإيران، ويكاد يعيد أفغانستان إلى حركة طالبان، وخذل المعارضة السورية، وأحدث فوضى في ليبيا، وتآمر على مصر، وخذل دول الخليج بتغييبها عن الاتفاق النووي مع إيران.
بالنسبة للرئيس ترامب فهو ليس بالأهوج حتى يهدم الجسور مع الكل في أوروبا، ومع المكسيك جارته الجنوبية، ومع دول الخليج والمسلمين عامة، لكنه سيسعى إلى تحقيق مصالح بلاده أولاً. فلا فضل لأحد في فوزه، أي لا فضل للحزب الجمهوري، ولا لمراكز القوى التي تدعي الآن أنها دعمته مثل اللوبي اليهودي و«إسرائيل» التي ابتهجت لفوزه، مع العلم أن الصوت اليهودي في أمريكا يصب لصالح الديمقراطيين تاريخياً مع هامش للجمهوريين، فليس هناك إدارة أمريكية خدمت «إسرائيل» أكثر من إدارة أوباما، فهي ساهمت في تدمير جيوش عربية كالجيشين العراقي والسوري. لكن «إسرائيل» التي تتلقى الآن 11 مليون دولار يومياً من الولايات المتحدة تبدو في حالة نهم إضافية، وتريد المزيد من الدعم السياسي والمادي، بحجة أن ترامب حصل على دعم اللوبي اليهودي هناك، وخرج الإعلام «الإسرائيلي» الموجه من اليمين الاستيطاني مصفقاً، وكأن الإدارة السابقة كانت تجلد «إسرائيل» مع كل بناء استيطاني، وكلنا نعلم أن جزءاً كبيراً من المساعدات الأمريكية يخصص للاستيطان.
الرئيس المنتخب ترامب يبالغ عندما يطالب الدول الخليجية بحصة من نفطها لقاء ما يسميه حمايتها، وهو يعلم أن الخزينة الأمريكية تلقت ما يقارب 600 مليار دولار من الأموال الخليجية أثناء تحرير الكويت، وبعدها فالتدخل الأمريكي لم يكن مجانياً. أما احتلال العراق فهو لدوافع أمريكية «إسرائيلية» وليس لدوافع عربية. بل إن احتلال العراق هو العنصر التخريبي والإرهابي الأساسي الذي أدى إلى هذا الخراب الشامل في المنطقة العربية، وهو خراب جلب النفوذ الإيراني وغيره إلى المنطقة مجدداً، فمن الطبيعي أن تدفع الولايات تعويضات عن احتلالها للعراق لا أن تُكافأ.
ترامب الرئيس المنغمس في الشؤون الدولية والمحلية سيركب لنفسه سلسلة من الكوابح التي ستجعله يعيد النظر في مواقفه الانتخابية، لكن أساسها سيبقى الانكفاء داخلياً والتعامل خارجياً من منطلق مصلحي، إلا أنه سيتراجع عن نواميس منظمة التجارة العالمية، ما يضر بعلاقاته مع الصين المستثمر الأكبر في سندات الخزينة الأمريكية، وكذلك قد يخرق ميثاق المناخ لدفع عملية توفير الطاقة من الفحم الحجري والزيت الصخري، لتستغني الولايات المتحدة وهي الملوث الأكبر للمناخ عن مصادر الطاقة المستوردة.
عملياً لن ينغمس ترامب في تفاصيل السياسة الدولية إلا بمقدار تأثيرها في بلاده، وهو بالتالي سيسمع الكثير من المطالب الخارجية لتصحيح اعوجاج السياسة الأمريكية في العالم، لكنه لن يكون ترامب تحت الطلب كما يتصور البعض، إلا أن من المحتمل أن ينقلب على جماعة «الإخوان المسلمين» وقد ينقلب أيضاً على الاتفاق النووي مع إيران بشكل غير دراماتيكي، ولكن بتشديد الرقابة على التزام إيران بالاتفاق.
الجديد في فوز ترامب أنه كسر احتكار الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وهذا ينبئ بمرحلة الشعبوية التي قد تنتقل عدواها إلى أوروبا، أو انتقلت فعلاً عندما وافقت الأغلبية في بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي، وقد شعرت أحزاب اليمين الأوروبي بالانتعاش لفوزه، وكأنه سيشق لها الطريق للفوز في بلدانها، فالشعبوية هي الاعتماد على نبض الشارع، وأن تقول ما يريده وبالطريقة التي يريدها، وهذا سر نجاح حملة ترامب. فالانتخابات الأمريكية الحالية كانت الأكثر إثارة وكشفاً عن الفضائح المتبادلة، بحيث يمكن معاقبة المرشحين بالسجن بدلاً من الرئاسة، لكن ترامب ليس نبتاً شيطانياً، بل هو يمثل شريحة شعبية تفكر هكذا.. ومثلما تكونون يولَّى عليكم.
عن الخليج الاماراتية