"فتح" تنظيم الجماهير أم تنظيم النخبة؟

د.عاطف أبو سيف
حجم الخط

لم يرتبط تنظيم فلسطيني بالجماهير، ولم يؤسس لعلاقة عضوية معها، ولم يستند إلى موروثها وثقافتها ومعاشها مثلما ارتبطت حركة فتح.

وفيما ارتكزت التنظيمات الفلسطينية كافة على معتقدات وأفكار ومقولات خارج نطاق الحياة اليومية والكفاح اليومي للجماهير فإن فتح نجحت في أن تكون تنظيم الجماهير والمعبرة الحقيقية عنها.

فالتنظيمات الفلسطينية اعتمد بعضها على الفكر الأممي الاشتراكي والماركسي وبعضها على الأفكار القومية العروبية العريضة، فيما اعتمد شق ثالث على الدين الإسلامي والأمة الأشمل، وبقيت فتح دون سواها، وربما ليس لمفارقة غريبة، التنظيم الفلسطيني الوحيد الذي لم يستورد شيئاً من خارج فلسطين إلا قلوب محبي الشعب الفلسطيني وأنصاره ومؤازريه وبُعد القضية وعمقها العروبيين.

ما عدا ذلك كانت فتح وظلت فلسطينية بامتياز، إنها الفلسطنة التي تغنى بها درويش في رائعته "عاشق من فلسطين" وهو يزهو: فلسطينيةَ العينين والوشمِ/ فلسطينية الاسم/ فلسطينية الأحلام والهمِّ/ فلسطينية المنديل والقدمَين والجسمِ".

هكذا كانت فتح وبقيت، وربما لمصادفة أيضاً ليست غريبة على فتح فإن فتح هي التنظيم الفلسطيني الوحيد الذي حمل كلمة وطن في اسمه، وأشار لنفسه أنه حركة تحرر وطني. فمثلاً تتزين تنظيمات اليسار بربط اسمها بمرجعيتها الخارجية أو الهوياتية فكانت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والديمقراطية والنضال الشعبي والحزب الشيوعي (وقتها) وبعد ذلك حركة المقاومة الإسلامية وحركة الجهاد الإسلامي. أما "فتح" فعرفت عن نفسها من خلال اسمها بأنها حركة التحرير الوطني الفلسطيني، وبذلك جعلت الوطن جزءاً من تعريفها لنفسها وجعلت الوطنية جزءاً من إشارتها لهويتها. فلا هوية فتحاوية خارج هوية فلسطين ولا شيء يمكن أن يدل على فتح إلا ارتبط بفلسطين ولا شيء يمكن أن يقود إلى فلسطين لا يمر عبرها.
معادلات جدلية تشبه حكايات جداتنا في بساطتها لكن في مقدرتها على الاندماغ في ذاكرتنا.

من هنا ربما تفرط "فتح" في حساسيتها المبررة تجاه استقلالية القرار الوطني وتعتبر المساس به من المحرمات التي لا هدنة ولا مساومة فيها.

فالقرار الوطني واستقلاله جزء من هوية فتح وجزء من ارتباط فتح بجماهير شعبها ونذرها نفسها وقادتها وأنصارها للدفاع والذود عنها.

وهو بالتالي ليس كلاشيهاً ولا شعاراً فكرياً في تنظيم لا يعترف بالايدلوجيا ولا يقر بالصراع والديالكتيك، بل هو ترجمة لفهم عميق لطبيعة الالتحام مع القضية الوطنية التحررية.

إن إدراك فتح لطبيعة هذه العلاقة هو الذي أسس لشعارات فتح البسيطة لكن عميقة التعبير عن كنه الصراع وجوانبه. فالقرار المستقل لم يعن بالنسبة لـ "فتح" إعفاء الأشقاء العرب مثلاً من مسؤوليتهم القومية ولا هو استبعد الاستناد إلى الدعم الدولي ومناصرة الشعوب لنضال شعبنا، بل عنى التركيز على ذلك من خلال أن الشعب الفلسطيني هو الذي يقود عملية التحرير وبالتالي لا يقبل وصاية من خارجه، ولا يتساهل مع تدخل في شؤونه، بل يدعو الآخرين إلى المساهمة في النضال التحرري ويتقبله.

مرة أخرى هذه العلاقة التي ربطت "فتح" بجماهيرها هي في صلب الفكرة الفتحاوية القائمة على رفض أن يقاد الشعب الفلسطيني من خارجه، وعلى فكرة أن الشعب يقود عملية التحرير.

من هنا لاحظوا كيف قالت فتح عن نفسها "أم الجماهير" وكيف وصفت نفسها بأنها تنظيم الجماهير، وتأملوا بعمق شعار فتح الذي لم يكد يخلو شارع منه ذات يوم حين كانت فتح تكتب على الجدران: "فتح مرت من هنا".

شعار من تلك الشعارات الفلسطينية الأقرب للقلوب على شاكلة: "فلسطين حرة" و"عاشت فلسطين" و"فلسطين عربية".

"فتح مرت من هنا" يعني أن فتح مكون من مكونات الحياة في فلسطين، حيث تكتب فتح أنها مرت من هنا فإنها تقول إن المكان الذي يخلو من فتح ليس فلسطينياً، وإن فلسطين لم تكتمل فلسطينيتها إلا مع فتح.

قد يبدو هذا كلام مشبعاً بالعاطفة، لكنه جزء من الهوية الفتحاوية والفهم الفتحاوي.
وعليه فإن على فتح أن تحرض على هذه العلاقة مع الجماهير وأن تحافظ على ارتباطها بقطاعات الناس المختلفة وتحذر من أن تتحول إلى تنظيم النخبة.

أشياء كثيرة لا بد لفتح أن تقوم بها تشمل ضمن أشيا كثيرة أن تحافظ على نفسها من أن يتم خطفها عبر الخبراء والتكنوقراط والباحثين عن "الكارير career"، ورأس المال غير الوطني، وتفرط بهويتها النضالية وفكرتها القائمة على حالة الاشتباك مع الاحتلال بكافة المستويات.

عليها أن تحذر من أن يفسدها هؤلاء الذين يرغبون أن يروها حزباً وليست حركة تحرر وطني، في تجاوز لمهمتها الوطنية.

فتح تنظيم الجماهير يعني أن تصوغ فتح استراتيجية لتمكين العلاقة مع الجماهير بوصفها المعبرة الأصدق عن تطلعاتهم وأمانيهم، تعني أن تطور برامج تلتحم فيها مع هموم الناس ونضالهم التحرر اليومي في مواجهة سياسات الاستيطان والإحلال والمضايقات، يعني أن تقف فتح سداً منيعاً في وجه كل محاولات طمس الهوية الجمعية الشاملة للشعب الفلسطيني مقابل تطوير الهويات الجانبية والفرعية، تعني أن تطور فتح خططاً لتقديم خدمات للناس في القطاعات كافة وأن تعنى بكل الفئات المعوزة وصاحبة الفضل في مسيرة فتح وكفاحها لأن فتح لا تنسى أبناءها.

يشمل ذلك إعادة جسور الثقة بينها وبين أبناء شعبنا في الداخل والشتات، الشعب الذي مازال يؤمن بأن فتح الطريق الأنسب لتحقيق التطلعات الوطنية، والعمل على تطوير وسائل نضالية تحافظ على فكرة فتح كحركة تحرر وليست حزب السلطة ولا تنظيم النخبة.

أما إذا تركت فتح نفسها دون تفكير وتدبير فعليها أن تحذر من أن تتحول إلى حزب وليس حركة وتصبح تنظيم النخبة وليس الجماهير، ووقتها لا تعود "فتح" "فتح" ولا تعود حركة الجماهير ولا يملك وقتها أبناؤها إلا لحظات الحنين للماضي الذي كانت فيه فتح تشبه نفسها.
"فتح مرت من هنا" لأن فتح الأقدر على أن تكون حركة الفلسطينيين بامتياز.