منذ تراجع دور الجيوش العربية في معادلة الصراع مع إسرائيل تزايد بشكل ملحوظ إحساس الإسرائيلي بالخطر على مستويين مختلفين: الاول ما عرف بالخطر النووي الإيراني والثاني المتصل بدور المقاومة وانتقالها، خصوصا في لبنان وقطاع غزة إلى مستويات جديدة. وبعد إبرام الاتفاق النووي بين القوى العظمى وإيران تراجع أيضا دور الخطر النووي الإيراني ليغدو خطر قوى المقاومة المظهر الأبرز في تعاطي إسرائيل مع المخاطر. ويمكن القول إن الحرب الدائرة في سوريا وعدم الاستقرار في شبه جزيرة سيناء دفع القيادة الإسرائيلية إلى التركيز على دور ليس فقط «حزب الله» في لبنان وحماس في قطاع غزة وإنما على احتمال نشوء قوى جديدة معادية في سيناء وسوريا.
ورغم الإكثار مؤخرا، خصوصا بعد حرب 2014 على غزة، من الحديث عن خطر حماس إلا أن الأنظار ظلت مصوبة بشكل كبير نحو لبنان. فحماس في قطاع غزة، رغم كل ما أنجزته المقاومة على صعيد التسلح والردع، تعاني من حصار يزداد شدة مع مرور الوقت ولا تبدو له متنفسات حقيقية. وأحيانا لا تجد حماس متنفسا لها سوى الضغط الدولي والخشية الإسرائيلية من انفجار الوضع الإنساني في قطاع غزة. ولكن ليس هذا هو الحال مع «حزب الله» في لبنان حيث يجد الحزب مجالا حيويا له يمتد عبر سوريا إلى كل من العراق وإيران رغم كل محاولات تقييد حركته.
ومؤخراً، بعد العرض العسكري المدرّع لقوات من «حزب الله» في القصير السورية، صار الحديث الإسرائيلي عن خطر «حزب الله» واحتمالات الصراع معه أشد وضوحا. صحيح أن التقرير المنشور هنا بقلم المراسل العسكري لصحيفة «هآرتس»، عاموس هارئيل يحوي معطيات جديدة لكن جوهر هذه المعطيات كان معروفا منذ وقت طويل. فـ «حزب الله»، منذ سنوات طويلة، لم يعد يعتبر في الأدبيات العسكرية الإسرائيلية، مجرد قوة عصابية تعتمد على مبادئ حرب العصابات التي تقوم على فكرة «اضرب واهرب» وإنما صار قوة مختلفة. وحتى قبل الخبرة التي كسبها «حزب الله» في الحرب الأهلية في سوريا، سواء لجهة نوعية الأسلحة وحجم القوات وإدارتها، كانت إسرائيل تتحسب من احتمال إقدام قواته على احتلال موقع عسكري أو مستوطنة حدودية.
غير أن هذه التحسبات لم تعد في الآونة الاخيرة مجرد تقديرات بل صارت منطلقا لتدريبات وفرضية منطقية مأخوذة بالحسبان بقوة. وربما أنها أكثر من سواها ما قاد مؤخرا إلى بلورة نظريات عسكرية إسرائيلية تقوم على الابتداء بتهجير سكان المناطق الحدودية لمنع تقييد يد الجيش في حال سيطرة قوة من «حزب الله» على منطقة مأهولة. ولا ريب أن قيادة الجيش الإسرائيلي آمنت في الأعوام الأولى للحرب الأهلية في سوريا بأن هذه الحرب ستبتلع قوة «حزب الله» وستضعفه وتلهيه عن الاهتمام بالخطر الإسرائيلي. وكانت كل التقديرات تتحدث عن عدم وجود مصلحة لـ «حزب الله» في مواجهة مع إسرائيل بسبب الوضع في سوريا. وقاد هذا مرارا إلى جرأة إسرائيلية في استهداف ذخائر لـ «حزب الله» إلى أن تبدلت الصورة مؤخرا جراء عوامل عدة بينها الدور الروسي وتعزز قدرات النظام السوري والحلفاء الإيرانيين و»حزب الله». وهذا ما قلل مؤخرا من تجرؤ إسرائيل على توجيه ضربات كالتي كانت تتم في الماضي.
وتتحدث تقارير إسرائيلية عن أن ما يتبدى على الحدود اللبنانية يشير إلى عدم ارتداع «حزب الله» عن العمل في مواجهة إسرائيل ما جعل الجيش الإسرائيلي أشد حذرا من أي وقت مضى. وكان للحدث الحدودي في الشهر الفائت أثره في تحديد ردود الفعل الإسرائيلية والخشية من عواقب أية اندفاعة مبالغ فيها لجهة الرد على عمليات من الحدود اللبنانية. وخلافا للحال القائم مع قطاع غزة حيث ترد إسرائيل على كل عمل من القطاع باستهداف مواقع لحماس فإنها ورغم إعلانها أن الحكومة اللبنانية هي المسؤولة عن كل خرق تتجنب استفزاز «حزب الله» إذا أقدمت قوى أخرى على العمل من جنوب لبنان.
في كل حال وحسب المراسل العسكري لموقع «والا» أمير بوحبوط فإنه بعد مرور عقد من الزمان على حرب لبنان الثانية «توصف الحدود مع لبنان بأنها مستقرة جدا وهادئة. وأبراج المراقبة التي أنشأها الجيش اللبناني في العام الأخير قرب الحدود لا تشهد على تغيير في ميزان القوى. وفرضية العمل الإسرائيلية هي أن حزب الله، الذي يخوض معركة واسعة جدا ضد المتمردين في سوريا، غير معني باحتكاك زائد مع إسرائيل لكنه بالتأكيد جاهز ومستعد في مواجهة الجيش الإسرائيلي».
وخلص إلى أن الرسالة العامة لرئيس الأركان الإسرائيلي غادي آيزنكوت، والذي سبق وخدم كقائد للجبهة الشمالية، هي أن حدثا تكتيكيا واحدا على الحدود يمكن أن يتحول إلى حدث استراتيجي يجر دولة إسرائيل لتصعيد ولذلك على القوات أن تكون متزنة ويقظة في كل عمل.
ونظرا لحساسية الجبهة اللبنانية والخشية من التورط في معركة واسعة مع «حزب الله» فإن القيادات العليا في الجيش الإسرائيلي لا تترك للقوات الميدانية فرصة للانجرار. وطوال الوقت هناك تعليمات بتوخي الحذر ومنع التراخي وعدم إفساح المجال لنشوء وضع تضطر فيه إسرائيل للعمل أو يتحقق فيه «حزب الله» أو لسواه إنجاز. وفي كل حال فإن إسرائيل التي تخوض «حرب ظلال» سرية ضد العديد من الجهات والقوى في المنطقة تخوض هذه الحرب على نطاق واسع أيضا في لبنان