عيش حياة (اسم مستعار) في مدينة «البندقيّة» بإيطاليا عيشة مريحة هانئة، فهي سيّدة أعمال مهاجرة ولا ينقصها إلا زوج يؤنسها. كانت راضيّة بحياتها إلى أن حصل المنعرج.
فذات ليلة باردة من شتاء 2015 كانت جالسة في بيتها تتابع برامج الفضائيّة التّونسيّة وكان البرنامج يتناول موضوع السّجن والسّجناء وتحدث فيه مساجين عن أوضاعهم ومن بينهم سجين عبّر عن ندمه عما ارتكبه، ورغم أن وجه المتحدّث كان مخفيّاً إلا أن صوته ونبرته وحديثه شدّ انتباه هذه المرأة فتعاطفت معه وهو يروي تفاصيل معاناته في السجن وقررت طلب الزواج منه.
لم تكن تعرف من هو؟ ولم تعرف اسمه أو عمره أو ملامح وجهه.
«سيّدتي» التقت المحامي الذي نسّق كلّ تراتيب هذا الزّواج الفريد من نوعه ليكشف لنا كلّ خفايا هذه القصّة الإنسانيّة غير المألوفة.
ويقول: «بعد أسبوع من بثّ البرنامج، رنّ جرس هاتفي وظهر لي رقم مجهول لا أعرفه، أجبت دون تردّد، وإذا بصوت نسائي يأتيني مهنّئاً بنجاح ظهوري في البرنامج التلفزيوني، وبعد شكرها لي، دخلت في جوهر الموضوع الذّي من أجله اتّصلت بي وقالت: أتذكر ذلك السّجين الذي تحدّث في البرنامج التّلفزيوني يومها؟ أريد أن أتصّل به فهل تساعدني؟»
فسألها حينها عن دوافعها في السعي لربط الصّلة به، فأجابته دون تردّد: «منذ ذلك اليوم لم يفارق صوته أذنيّ، وأعتقد أنّني وقعت في غرامه»
المنعرج
يسترجع المحامي شريط المحادثة في الهاتف بينه وبين المرأة قائلاً: لم أدر بم أجيب في تلك اللحظة، وأنّه لم يكن يدرك مدى جديّة هذه المرأة التي تخاطبه من خارج تونس، والتي ترغب في التواصل مع شخص مسجون ومحكوم عليه بالإعدام ولا تعرف عنه شيئاً.
وبعد أيّام قليلة من المحادثة الأولى عاودت المرأة الاتصال بالمحامي، وألحّت عليه لتلبية طلبها ويقول: «نصحتها بالتريّث، ولكن إصرارها كان كبيراً، فلم أجد بدّاً من الاستجابة لرغبتها، وبعد تكليفي رسمياً بنيابتها، توجّهت إلى إدارة السّجون وتقدّمت بطلب لزيارة السجين والالتقاء به».
مضيفاً: «كنت متشوّقاً لمعرفة السبب الذي جعل موكّلتي وهي السيّدة الثريّة الجميلة الأنيقة الهادئة تتعلّق به، لم يطل انتظاري كثيراً لأعرف السبب، فمنذ أوّل لقاء مع سامي (اسم مستعار) بقاعة الانتظار بسجن «الناظور» بمحافظة «بنزرت» (60 كلم شمال تونس العاصمة) وجدت رجلاً جاوز الأربعين من عمره، على قدر كبير من الوسامة والكاريزما، ومنذ بداية الحديث مهه أدركت أنّني أقف أمام رجل مثقّف جدّاً، وأعلمته أنّني جئته حاملاً عرضاً من امرأة تونسية تقيم بإيطاليا ترغب في الارتباط به، أطرق سامي صامتاً لوهلة ثمّ قال لي: أعلمها أنّني موافق، وأخبرها أنّني لن أغادر السجن إلاّ بعد 12 عاماً».
الغيرة القاتلة
السّجين هو أستاذ جامعي من عائلة محترمة، ارتبط بفتاة أحبّها بجنون، وفي لحظة غضب وبسبب الغيرة تشاجر معها في سيّارته وضربها على رأسها ففارقت الحياة، وقد اعترف بارتكابه لتلك الفعلة وحكم عليه بالإعدام، ثمّ وبفضل حسن سلوكه داخل السّجن تمّ الحطّ من العقاب ليصبح حكماً بالسجن مدى الحياة، ولنفس السبب تمتّع بعد ذلك بعفو جديد وتمّ تخفيض المدّة لثلاثين سنة، قضى منها إلى الآن ثماني عشرة سنة وراء القضبان.
القرار
تمسكت المرأة برغبتها في الارتباط بسامي حتى بعد أن سمعت تفاصيل قصّته، وأبلغت «حياة» عائلتها التي لم تبد رفضاً أو اعتراضاً، وبدوره أخبر سامي أسرته فرحّب أفرادها بالخبر بل وسعدوا به.
مراسم حفل الزفاف
هذه ليست المرّة الأولى التي يعقد فيها قران سجين، وعلى السجين الراغب في الارتباط أن يتقدّم فقط بطلب لإدارة السجون، وبعد الموافقة تجرى عليه الفحوصات الطبيّة العاديّة، كما ينصّ القانون، ثمّ يحدّد تاريخ لعقد القران بالسجن.
ويضيف أنه بالنسبة للمرأة المقيمة في إيطاليا والسجين، فقد أحضرت إدارة السجون فرقة موسيقية ومغنين ومطربين، كما تم إعداد قاعة فسيحة بها كل ديكور الأفراح، وتم السماح بدعوة بعض أهل السجين والعروس، وتكفلت إدارة السجن بتوزيع الحلويات على الحاضرين وعلى بقية المساجين، واستمرّ الحفل لساعات، وكانت المناسبة الأولى التي يلتقي فيها الحبيبان بشكل مباشر.
وبعد تلقي التهاني وفي ليلة الدخلة تم اقتياد العريس بلباسه الأنيق مباشرة من حفل زفافه إلى مكانه المعتاد في السجن، وعادت العروسة إلى بيت أهلها فالخلوة الشرعية غير معمول بها في السجون التونسية.