مصادفات تشرينية إسرائيلية وفلسطينية

حسن البطل
حجم الخط

في مقالته، أمس، في جريدتنا اقتبس زميلي عبد الغني سلامة فقرة من مقالة لي عن مرحلة ما بعد أوسلو، حيث انتقل مركز الثقل الفلسطيني من الشتات إلى أرض البلاد.

أذكر أن مقالتي تلك كانت نشرت قبل الاحتفال الرسمي بافتتاح متحف عرفات، وفيه كانت الكلمة الرئيسة الثانية، بعد كلمة الرئيس أبو مازن، لرئيس "القائمة المشتركة" في البرلمان الإسرائيلي، أيمن عودة.

من المحتمل، أن يلقي أيمن عودة، أو محمد بركة، أو أحمد الطيبي مثلاً، كلمة في الجلسة العامة الافتتاحية لمؤتمر حركة "فتح" السابع، أو أن يكونوا "ضيوفاً" عليه.

هل لي، أن أذكر واقعتين حدثتا، قبل أوسلو، لما كنتُ و"فلسطين الثورة" في قبرص؟ الأولى عن وصول عضو الكنيست، آنذاك عبد الوهاب دراوشة إلى نيقوسيا، ساعياً لحضور دورة المجلس الوطني الفلسطيني في العاصمة الأردنية عمّان. آنذاك، كنتُ في عمّان، بينما سرّب "مصدر مجهول" عرفته فيما بعد، أنني "رجل اتصال" بين دراوشة والمنظمة. كان هذا غير صحيح، وعاد النائب إلى إسرائيل، بعد أن استضافه رجال سفارة فلسطين في نيقوسيا.

الواقعة الثانية، أن مؤتمراً دولياً، غير رسمي، عقد في نيقوسيا، وحضره من الجانب الإسرائيلي النائب ياعيل دايان، والنائب السابق ـ الجنرال: ماتي بيلد، ونواب وشخصيات فلسطينية من إسرائيل. آنذاك، استغرب رجل السلام بيلد حرارة العناق بيني وبين النائب هاشم محاميد وصحبه، وسألني: هل لك سابق معرفة بهم، ولمّا نفيت هزّ رأسه مطرقاً ومفكراً؟! شربت القهوة ودردشت بالعربية الفلسطينية مع بيلد، وعندما قلت له: سنشرب القهوة في حيفا، قال: إن كنّا على قيد الحياة!

مصاباً بالسرطان في آخر حياته، عكف بيلد على ترجمة رواية الأديب سليم بركات "فقهاء الظلام" إلى العبرية، وبعد أوسلو هاتفنا من حيفا: لنشرب القهوة في حيفا، وهذا لم يحصل، للأسف. مات.

الذي حصل، شربت القهوة مع إميل حبيبي في نيقوسيا، قبل أوسلو، وفي غزة ورام الله بعدها. في نيقوسيا غضب حبيبي من تعبير "عرب 48".

الآن، يقول أيمن عودة: نحن فلسطينيون 100% ومواطنون في دولة إسرائيل 100%، وينسب محمد بركة إلى أبو مازن قوله: إن كان الحل هو في التبادل السكاني ـ الجغرافي، كما يقترح ليبرمان، فإنني سأرفض مثل هذا الحل!

في مقالة له في "هآرتس" لم يتحدث شاؤول أرئيلي عن مؤتمر "فتح" السابع، لكنه ساق أصواتاً حصلت في تشرين الثاني على مدى قرن، منها وعد بلفور، وقرار التقسيم 181، وقرار مجلس الأمن 242، وقبول الجمعية العامة م.ت.ف (خطاب عرفات 1974) واعتراف م.ت.ف اللاحق بالقرار، وزيارة السادات لإسرائيل واغتيال رابين، ثم وفاة عرفات.. وأخيراً، اعتراف الجمعية العامة بفلسطين كدولة مراقب.

أنهى أرئيلي مقاله ذاك، منوهاً بعبارة الشاعر ت. س إليوت 1922: "نيسان هو الشهر الأكثر وحشية" ومن العبارة قال درويش: "نيسان أقسى الشهور" في إشارة إلى أحداث فلسطينية منها اغتيال القادة الفلسطينيين الثلاثة في بيروت في 13 هذا الشهر من العام 1972 ببيروت، وتساءل في الختام: متى يحصل اتفاق فلسطيني ـ إسرائيلي في شهر ما من تشرين الثاني في سنة ما؟!

يمكن أن نضيف، أيضاً، إلى أحداث تشرين الثاني موجة مشاريع تشريع إسرائيلية، ومشاريع استيطان في الفترة بين إدارتين في البيت الأبيض، وما يتردد من عزم الرئيس المنتخب ترامب تعيين سفير أميركي لدى إسرائيل سيعمل على نقل السفارة إلى القدس، وينفي وجود شعب فلسطيني، ويؤيد ضم إسرائيل لـ"يهودا والسامرة" واستيطانها.

.. لكن، مع انتقال مركز الثقل الفلسطيني من الشتات إلى أرض البلاد، صار لأيمن عودة أن يكون المتحدث الثاني في افتتاح متحف عرفات، وقد يتحدث قائد فلسطيني في إسرائيل في افتتاح مؤتمر "فتح" في تأكيد آخر على وجود شعب فلسطيني واحد، عابر للخط الأخضر، الذي تمحوه إسرائيل بمشاريع الاستيطان والضم، واعتبار المستوطنين "محليين" من رعايا دولة إسرائيل.

في زحمة أحداث تشرين الثاني، تذكّر الفلسطينيون بالذات، ثلاثة منها: وعد بلفور، ووفاة عرفات، ومؤتمر "فتح" السابع في 29 الجاري، الموقوت على صدور قرار التقسيم الدولي، وهذه الأحداث غطّت على ما حدث في 15 من تشرين الثاني 1988 عندما أعلن المجلس الوطني قيام دولة فلسطين، لكن قرار الجمعية العامة في تشرين الثاني 2012 بالاعتراف بفلسطين دولة غير عضو، على حدود 1967، يمهد لمعركة لاحقة وجارية وهي الاعتراف بالعضوية الكاملة.

هل السؤال: شكل علاقة انتخاب ترامب في 8 تشرين الثاني بالمسألة الفلسطينية ـ الإسرائيلية، أم جوهر علاقة انخراط الشعب الفلسطيني في إسرائيل في النضال السياسي لقيام دولة فلسطينية مستقلة، مع المساواة في الحقوق كـ"أقلية قومية"؟

في الفقرة التي اقتبسها الزميل عبد الغني سلامة عن متغير ما بعد أوسلو من انتقال مركز الثقل الفلسطيني إلى أرض البلاد جاء أنه "صراع بين موازين القوى في الجانب الإسرائيلي، وميزان الإرادات في الجانب الفلسطيني، الذي يواجه ميزان القوى بمزيج من الخصائص الفلسطينية الفريدة، مثل: قدرة التحمل، والصبر، والعناد.. وأيضاً روح الفداء، الابتكار والإقدام".

.. وأيضاً، صار يشارك مسؤولون فلسطينيون من السلطة الفلسطينية في المناسبات الفلسطينية ومؤتمرات الأحزاب العربية في إسرائيل، وبدورها تشارك شخصيات فلسطينية في إسرائيل في المناسبات الفلسطينية ومؤتمرات الفصائل، ومحاولات التوفيق بين السلطة الفلسطينية وحركة "حماس" في غزة لإنهاء الانقسام، بالاعتماد على نجاح الأحزاب العربية هناك في تشكيل ائتلاف برلماني، وإطارات عمل مشتركة قاعدية وجماهيرية.

تدعي إسرائيل أن التحولات العربية والإقليمية وكذا الدولية، تشير، سلباً، إلى تلاشي مركزية القضية الفلسطينية، لكن الحقيقة المقابلة هي أن المسألة الفلسطينية صارت، إيجاباً، هي المركزية لإسرائيل أحزاباً وحكومات، بعد انتقال مركز العمل الفلسطيني، على غير صعيد، من الشتات إلى أرض البلاد!

كم مرة قلت: تقرير المصير الفلسطيني يؤثر على مسارات إسرائيل السياسي والأيديولوجي، وكذا في المقابل يؤثر المسار السياسي الإسرائيلي، نحو المغالاة في التطرف، على حق تقرير المصير الفلسطيني. إن شهر تشرين الثاني قد يروي، في جوانب منه، قصة قيام إسرائيل وتثبيت مكانتها، كما يروي قصة نهضة فلسطين إلى تثبيت مكانتها، أيضاً. لكن المفارقة تكمن في مسار التطرف الإسرائيلي الحاكم، وفي مسار اعتدال سياسي فلسطيني.

التطرف قد يكسب جولة، لكن الاعتدال قد يكسب الصراع.