كل نبأ «جاف» يُكتب ويتعلق بسيطرة إسرائيل على الفلسطينيين إنما هو منح للثقة بحكمة القراء. وقريبا سيستنتجون أن العنف الجسدي، العسكري، والبيروقراطي الذي نستخدمه ضد الفلسطينيين ليس فقط اخلالاً بالمبدأ اليهودي الذي تفاخرنا به دائما. «لا تجعل من تكرهه صديقا لك»، بل هو ايضا يشكل خطرا على مستقبلنا جميعا. وآمل أن يتنصل القراء بحكمتهم في نهاية المطاف من سذاجتي الأمومية وأن يشجعوا أبناءهم الجنود على رفض هدم الخيام وملء آبار المياه بالتراب واقتحام المنازل واطلاق النار على الصيادين في غزة.
آمل ايضا أن يتخلص القراء بحكمتهم من صعوبات الحياة اليومية، وأن يعملوا من اجل وضع حد لسياسة دولتهم وحكومتهم الانتحارية. واذا استمر هذا خمسين سنة، بل سبعين، فهذا فقط لأننا لم ننجح في نشر جميع الحقائق الجافة.
واليكم على سبيل المثال حقيقتين من بين مئات الحقائق تم اخفاؤهما عنكم، هذا الاسبوع، سواء بسبب ضيق الدائرة أم بسبب عدم وجود الأيدي التي تقوم بالكتابة: الاربعاء صباحا، في 16 تشرين الثاني، اقتحمت 8 جيبات عسكرية مدرعة شارع ركب في رام الله، ومكاتب معهد الصحة والتطوير والمعلومات والسياسة – منظمة غير حكومية تعمل من اجل تطوير سياسة حكومية من اجل المجموعات الضعيفة والمهمشة مثل النساء والشباب والمعاقين. قام جنود الجيش الاسرائيلي بتفجير البوابات وصادروا افلام فيديو وبطاقات وكاميرات الحراسة ووثائق اخرى. وقاموا ايضا بتحطيم الحواسيب والنوافذ وأحدثوا ثقوبا في الجدران. وأصيب شابان من الذين تظاهروا احتجاجا على الاقتحام بالرصاص.
في ذلك اليوم تم تمديد اعتقال نشيط في منظمات المقاومة الشعبية غير المسلحة، وهو صلاح الخواجا، الذي اعتقل في 26 تشرين الاول، ومنذ ذلك الحين يتم التحقيق معه في «الشاباك» ومحظور عليه رؤية المحامي معظم الوقت. وحسب البروتوكول في تمديد الاعتقال الثاني في 9 تشرين الثاني، قال للرائد يارون بن يوسف، قاضي المحكمة العسكرية في «السامرة»: «أنتم تستطيعون أن تعرفوا من خلال الطبيب أنني أعاني من آلام في الظهر والكتف، وقبل ثلاثة ايام شعرت بخدر في يدي اليسرى نتيجة الألم، وقد امتد الألم الى الصدر. ومنذ يوم الاحد وحتى اليوم لم يسمحوا لي بالنوم. طوال الوقت يجلس المحقق وكأنه يقوم بحراستي. والهدف هو عدم نومي. سألني أغلبية المحققين اذا كنت أحب أن أرى زوجتي وهي عارية. وسألني أحد المحققين عن عمر ابني. فقلت له: 18 سنة. وقالوا لي إنه سيصبح عميلا لإسرائيل».
في تمديد الاعتقال الثالث في 16 تشرين الثاني سألت المحامية ليئا تسيمل محقق الشرطة، رامي خطيب، حسب البروتوكول: «إنه يدعي أن هناك محققا يسمي نفسه الشيطان غوردون، وهو من أصل روسي. وذلك الشيطان يقوم بالاعتداء عليه والتنكيل به جسديا. هل تعرف اذا كان هذا الامر صحيحا؟». وأجابها المحقق: «لا يمكنني الاجابة. المحقق غوردون قام بالتحقيق، ولكني لم أشاهد هذا الوصف».
ينتصر الاحتلال على الحكمة ليس بسبب اخفاء الحقائق. كل مقال رأي أو مقال تحليلي يُكتب ويتعلق بالسيطرة الاسرائيلية على الفلسطينيين، هو خيبة أمل متجددة تجاه حكمة القراء. الحاجة الى تفسير أن السلب هو سلب، وأن التعذيب هو تعذيب، وأن الكذب هو كذب، بـ 400 كلمة، هي اعتراف بالاهتمام المتدني لدى القارئ بالحقائق كما هي. مصالح ضيقة تشوش المعرفة والحكمة. أنانية قومية متطرفة. غسل أدمغة في المدارس والتلفاز ودافع من اجل الدفاع عن السلب وتبريره. هكذا هي الحال منذ خمسين – سبعين سنة.
إن الذين يتمسكون ايضا بالعمل السياسي غير المسلح، أو دمج النساء في خطط الصحة، ورفع الوعي لدى الجمهور كطريقة للنضال، هي أهداف تصلح لجيشنا وجنودنا ومحققينا الذين يمنعون النوم، والذين يعذبون ويتفاخرون بذلك، ويلفقون للخواجا تهمة الاتصال مع طرف اجنبي من اجل إبعاده عن طريق النضال الشعبي ومن اجل القول للآخرين: دائما سنجد طرقا لادانتكم وتعذيبكم حتى تعترفوا أنكم أرانب.
التناقض بين الذكاء وبين السلب والعمل الشيطاني لا يغيب عني. وهناك من سيقول إن التعالي يكمن في ذلك التناقض. اذا كان السلب مدة خمسين أو سبعين سنة مربحا، فمن الصحيح تأييده وتشجيعه. اذا كنا نقوم باقتلاع الفلسطينيين منذ سبعين سنة ونسيطر عليهم ونحطمهم كشعب ولا يحدث لنا أي شيء خطير، فهذا برهان على ذكائنا. الحروب والدماء والثكل هي أمور صغيرة اذا حصلنا في المقابل على الدعم الأمني من باراك اوباما.
أسمع بعض الجنود وهم يصرخون قائلين: «نحن الاذكياء». أنتم لستم خونة فقط، بل أغبياء ايضا.