لم يعد الأمر يحتاج إلى بحث وإحصاء وتوثيق، على أهمية ذلك وضرورته الفائقة.
أصبحت الحقائق ملموسة وكثيرة الانتشار على الأرض بحيث تدهم بصر المواطن الفلسطيني العادي كما تدهم وعيه قبل أن يقرأ عنها في المنشورات. ليس هناك مبالغة بالقول إن دولة الاحتلال وأجهزتها الاستيطانية تقدم لنا في كل يوم تقريباً وجبة غنية من الإعلانات عن موافقة الحكومة على بناء مستوطنات جديدة او توسيع مستوطنات قائمة في مناطق جديدة ومنتقاة بدقة وتخطيط، وخاصة في القدس ومحيطها، وعن تشريع مستوطنات عشوائية كانت تعتبر غير قانونية. الجديد اللافت في كل ما تقدم درجة التخطيط المركزي الشامل والمنسق والذي تقوده حكومة الاحتلال وأجهزتها المعنية، وانه يحصل لخدمة هدف مركزي محدد بدقة ووضوح، وانه يتم بوتيرة تسارع عالية.
أما عن التخطيط المركزي المنسق، فانه يتجلى في ثلاثة مفاصل أساسية :
المفصل الأول: جاهزية التشريع لمواكبة حركة الاستيطان وتوسعها ولتشريع كل ما تقوم به على شكل قوانين وقرارات تصدر عن الجهات القانونية المعنية كما عن الكنيست. بل إن التشريع يبادر الى فتح الطرق والآفاق لحركة الاستيطان وتوسعها. آخر الأمثلة على ذلك القرار المطروح على الكنيست لصالح تشريع مستوطنة "عمونا" وأمثالها في تحايل على قرار المحكمة العليا الذي قرر لا شرعية عمونا ووجوب تفكيكها. والقرار المطروح على الكنيست لا يقتصر مفعوله على "عمونا" وحدها بل يخدم كل البؤر الاستيطانية ويفتح لها سبل الشرعنة، وعلى حساب أراضي المواطنين الفلسطينيين.
المفصل الثاني: تخطيط إقامة المستوطنات الجديدة او التوسع بما هو قائم بشكل يحقق الربط بينها لتتحول الى تجمعات استيطانية كبيرة متواصلة ومتماسكة يصعب المناداة بإزالتها. وبحيث تشكّل في نفس الوقت عوازل ضخمة تعزل مدن ومناطق الضفة الغربية عن بعضها وتمنع التواصل فيما بينها.
والمفصل الثالث: بناء طرق التفافية حديثة تربط المستوطنات والتجمعات الاستيطانية ببعضها وتربطها بمناطق ومدن دولة الاحتلال القائمة. ويتم اغتصاب الأراضي التي تقام عليها هذه الطرق من أراضي الضفة ومن أملاك المواطنين.
المفاصل الثلاثة، بقدر ما تخدم حركة الاستيطان وتغوّلها على القائمة على الإيمان التلمودي لدى الأغلبية الكاسحة لمجتمع دولة الاحتلال بحقهم الالهي بكل ارض فلسطين، فإنها في نفس الوقت تحوّل الضفة الى جزر معزولة يصعّب معها الى درجة تقترب من الاستحالة قيام دولة او اي كيان سياسي موحد فيها، ويسهّل لدولة الاحتلال التعامل معها والسيطرة عليها، ناهيك عن عزلها التام عن قطاع غزة والتواصل الجغرافي والإداري والحياتي معه.
واما عن الهدف المركزي، فان التوسع الاستيطاني بمفاصله الثلاثة المذكورة، لا يترك مجالا للتفكير والاجتهاد حوله.
انه بلا أدنى شك، رفض ومنع وإلغاء أية إمكانية ومقومات لقيام كيان سياسي فلسطيني مركزي مهما كانت طبيعته وشروطه وصلاحياته. وبالتالي إفشال، عبر حقائق الأمر الواقع، مشروع حل الدولتين الذي يتبناه المجتمع الدولي. بما يترك المجال امام خيار واقعي واحد هو دولة واحدة بقوميتين: الأولى أغلبية حاكمة ومسيطرة، والثانية أقلية مسيطر عليها في معازل متفرقة، يمكن ان يكون لها إدارة/حكم محصورة الصلاحية في الأمور الإدارية الحياتية والمعيشية وبعلاقات محدودة ومحكومة.
يحصل كل ذلك بتسارع شديد أمام أعين كل الدنيا ومسامعها ودون اي تدخل جدي او مؤثر لوقفه او فرملته. وذلك على الرغم مما لدى المجتمع الدولي ومؤسساته وهيئاته المتنوعة من قرارات صدرت ومن قرارات ما زالت تصدر تدين الاحتلال وتطالب بزواله وترفض الاستيطان، وتؤكد على حقائق يجاهد الاحتلال على طمسها او تزييفها، كما تؤكد على حقوق الشعب الفلسطيني وأولها حقه في دولة مستقلة على ارضه.
وتستفيد دولة الاحتلال من حالة الانتظار وتباين المواقف وضعف الفاعلية والانشغال بقضايا أُخرى التي تعيشها دول العالم وبالذات الدول المقررة فيه.
ويحصل كل ذلك، والوضع العربي، أنظمة وحالة جماهيرية، في اضعف حالاته: ان لجهة الانهماك والاستهلاك في مشاكل عدد من دوله، وان لجهة الفعل المبادر والمؤثر في مواجهة هذا التسارع العدواني من دولة الاحتلال، او لجهة تقديم الدعم والإسناد بالمستوى المطلوب للشعب الفلسطيني في مقاومته وتصديه للتسارع المذكور. وبالطبع فان دولة الاحتلال تستثمر حالة الوضع العربي هذه الى أقصى الدرجات.
والاهم وقبل كل شيء آخر، ان كل ذلك يحصل، والوضع الفلسطيني يعيش حالة انقسام عمودي ما زال يستمر ويتمدد ويتجذر ويستعصي على كل حل. ولا يبدو في الأفق اي حل واقعي وحقيقي له، فكل الحلول/المساومات المطروحة لا تخرج عن محاولة إدارة الانقسام وتشذيبه بأفضل ما يمكن بينما هو في الواقع يتجه نحو انقسام كياني سياسي مرعب.
وبالطبع أيضا، فان دولة الاحتلال ترقص على أنغام الانقسام وتلعب على أوتاره وتصب الزيت على ناره، وتستثمره الى آخر قطرة في تخطيطها المشار اليه وفي تحقيق هدفها المذكور.
وللأسف، فان واقع الانقسام وتجلياته وتعبيراته العديدة لا يوفر الضوء الكافي ولا التقدير والترحيب المناسبين بالانجازات التي يتم تحقيقها في المستوى الشعبي الدولي( حركة المقاطعة)، وبالقرارات التي يتم استصدارها في اكثر من هيئة ومؤسسة دولية وفي اكثر من مجال. ولا يمكّن من استثمارها بالشكل المطلوب.
هل يبقي هذا الحال القائم والمتواصل، أي جدية وأي فرصة لمشروع حل الدولتين الذي يتبناه المجتمع الدولي دون أي فعل جدي لفرض تحقيقه؟
الا يفرض هذا الحال وحقائقه القائمة على المجتمع الفلسطيني وقواه المجتمعية ونخبه بالدرجة الأولى، التعاطي معه بأفق جديد وبرامج جديدة وطرائق عمل جديدة.