برج ترامب وبضاعته، ثلاثة كتب وخلاصة..!! (2-2)

حسن خضر
حجم الخط

في العام 1917، قلب مارسيل دوشامب مبولة عادية من البورسلين، وعرضها، في نيويورك، بمعرض للفن الحديث بعنوان النافورة، ورغم فقدان العمل الأصلي، إلا أن صورته الفوتوغرافية أصبحت من العلامات الفارقة للفن الحديث. ويعتبر دوشامب اليوم أحد ثلاثة (إلى جانب ماتيس وبيكاسو) شكّلوا ملامح التحوّلات الراديكالية في الفنون التشكيلية، في أوّل عقود القرن العشرين، ويندر أن تجد كتاباً في تاريخ الفن لا يُضفي مكانة خاصة على دوشامب و"النافورة".
الخلاصة: إذا أجمعت مرجعيات تحظى بسلطة في حقلها الخاص على كون هذا العمل أو ذاك جزءاً من الفن، أو الثقافة، أو الفكر، فإن في إجماعها ما يفرض العمل المعني على الذائقة العامة، ويموضعه في التصوّرات الشائعة حول معنى الفن، والثقافة، والفكر، حتى وإن كان مجرد مبولة عادية، ولو تخيّلنا أن شخصاً عاش في القرن التاسع عشر، وعاد إلى الحياة في القرن الحالي، فلا ينبغي أن ندهش إذا نظر بازدراء إلى تسعة وتسعين بالمائة من فنون العالم، وثقافته، وفكره، هذه الأيام.
وما يصدق على الفن، والثقافة، والفكر، يصدق على كل شيء آخر، بما في ذلك، ومع ذلك، وفوقه، السياسة. فالسياسة، في التحليل الأوّل والأخير مفتاح التصوّرات السائدة، والذائقة الثقافية العامة، وسرها المكين والدفين. أمر كهذا، وبقدر ما يتجلى في عالم اليوم، إشكالي ومُخيف، فلم يسبق للبشرية أن امتلكت من أدوات التأثير على، وصناعة، التصوّرات السائدة، والذائقة الثقافية العامة (والسياسية) كما يحدث الآن. وعلى الرغم من "ديمقراطية" وسائل التواصل الاجتماعي، وتعددية المنابر الإعلامية، إلا أن الأقوياء، والأقوياء فقط، يمكنهم التأثير على، وصناعة، كل ما يفكّر فيه، ويتصوّره الناس.
على أي حال، هذا التقديم ضروري قبل استكمال الكلام عن ترامب وبضاعته، ففي المقالة السابقة أشرنا إلى كتابين تناولا سيرة ومسيرة المذكور بطريقة موضوعية، ومُتخيّلة، وأبقينا الكلام عن الثالث لمقالة اليوم لما له من وثيق الصلة بما تقدّم.
ففي كتاب واين باريت "ترامب: أضخم استعراض في العالم" (2016) ما يعيد التذكير بمجتمع الفرجة لغي ديبور، والذي بنى عليه ماريو فارغاس يوسا فرضيته الرئيسة حول موت الثقافة في كتاب جديد حمل العنوان نفسه.
الواقع، وكما يتجلى في كتاب باريت، هو أن سيرة ومسيرة ترامب جزء عضوي من مجتمع الفرجة والاستعراض. فالمذكور وُلد لأب يشتغل في العقارات، وقد جمع ثروة تقدّر بالملايين في سلسلة من الحيل، والمضاربات، التي اجتمعت فيها علاقة لا تنفصم بين المال والسياسة، ومهارة التلاعب بالقوانين السارية عن طريق شراء النفوذ السياسي، وكسب ود أصحاب النفوذ في عالم السلطة بالرشوة والضغط، واستثمار الحساسيات الحزبية، وممارسة الابتزاز في الانتخابات المحلية والعامة. المهم أن مضاربات الأب انتهت بفضيحة ومحاكمات.
أعاد الابن سيرة الأب، فلم يكن لامعاً في الدراسة، وفي سنواته الأولى لم يبد اهتماماً بالسياسة، خلافاً للشباب الأميركيين الذين تأثروا بالثورة الطلابية، وحرب فيتنام، وحركة الحريات المدنية، فقد كان منطوياً على نفسه، وحريصاً على أناقته الشخصية، ودخل عالم المال والأعمال كمساعد لأبيه، وسليل إمبراطورية عقارية، تعلّم أسرار نجاحها، واستخلص العبر من عثراتها، وإلى هذا كله أضاف هوسه الشخصي بصورته العامة، وضرورة البقاء على صدر الصفحات الأولى، وفي نشرات الأخبار، وأبواب النميمة وأخبار وفضائح المشاهير، في المنابر الإعلامية.
مثلاً، في محاولة إقناع الأميركيين بانتخابه قال لهم: إن القادر على جمع ثروة تُقدّر بعشرة مليارات دولار قادر، أيضاً، على قيادة دولة كالولايات المتحدة، وإخراجها من ورطتها. ولكن باريت يشكك في الحجم الحقيقي لثروة ترامب، ويشكك أكثر في قصة نجاحه الباهرة، فقد تعثّر كثيراً، وجابه خطر الإفلاس، وكذب على الناس.
المهم، أن المذكور، ومنذ أربعين عاماً على الأقل، وجه مألوف لدى الأميركيين عن طريق الصحف، وشاشات التلفزيون، ووسائل التواصل الاجتماعية، في السنوات الأخيرة. وقد نشر كتباً كثيرة (كتبها له آخرون على الأرجح)، وكُتبت عنه الكتب، إضافة إلى برامج تلفزيونية، وجامعة خاصة، لتعليم مهارات جمع المال، وأسرار النجاح، وكان المثل الأعلى لدونالد ترامب في كل ما "كتبَ"، وتكلّمَ، دونالد ترامب نفسه.
بمعنى آخر: عاش ترامب في مجتمع الفرجة، وتحوّل تحت ضوء ساطع إلى أحد وجوهه اللامعة، وإلى دليل على حقيقة أن الرأسمالية الأميركية لا تعرف سقفاً سوى السماء، فكل شيء في نهاية الأمر بضاعة وصناعة. السياسي بضاعة وصناعة، والانتخابات بضاعة وصناعة، والفوز بضاعة وصناعة، والمعاني السائدة بضاعة وصناعة، بكل ما في البضاعة والصناعة من مكياج، وديكور، ومهارات تسويق، وعرض وطلب، ومستحضرات أيديولوجية، ولغوية، وبصرية، تكفي لكسب أصوات الناخبين.
ثمة أكثر من أميركا، بطبيعة الحال، وعلاقة المال بالسياسة قديمة قدم الإنسان، ولكن مجتمع الفرجة ينجب، الآن، لا في أميركا وحدها، ولكن في مناطق مختلفة من العالم، أيضاً، ساسة من طراز جديد. قبل نصف قرن كان مفهوم السياسي والسياسة، في أربعة أركان الأرض، مقروناً بالتضحية، والتجرّد، والترفع عن المال والمكسب الشخصي.
صحيح أن الكثير من المُضحين، والمُتجردين، والمترفعين، كانوا كاذبين، ولكن مجرّد الكذب يعني أن قيم التجرّد والنزاهة كانت قوية إلى حد أقنع المهووسين بالسلطة بضرورة التحلي بها، ولو كذباً.
واليوم، في مجتمع الفرجة، وفوضى المرجعيات، ضاعت القيم التقليدية، وأصبحت وقاحة الفهلوة والكذب، ومهارات السوق والتسويق، من علامات النجاح وأسراره، بطريقة تعيد التذكير بدوشامب و"نافورته"، ولعل في هذا، وبمثله، ما يصدق على لعبة السياسة في عالم عولم تحت راية الليبرالية الجديدة، فأضخم استعراض في العالم أوصل صاحبه إلى سدة الحكم، في أهم وأكبر مجتمعات الفرجة في التاريخ.